نحن نبحث دائمًا في عالمنا هذا، عن الأحداث الكبيرة، عن الصراعات الصاخبة، عن النهايات الحاسمة. لكن هناك عالماً آخر، عالماً موازياً، تسكنه التفاصيل الصامتة، والنظرات المتجنبة، والكلمات التي لم تقال أبداً.
هذا هو العالم الخفي لأنطون تشيخوف... الطبيب الذي أصبح شاعر النفس البشرية، والكاتب الذي علمنا أن أعظم الدراما لا تكمن في العواصف، بل في الهمسات.
في حلقتنا اليوم، سندخل معاً إلى ذلك العالم الخفي. سنقف عند نوافذ شخصياته لنرى ما بداخلها، سنستمع إلى ما لا يقال في مسرحيات مثل "النورس" و"بستان الكرز"، وسنقرأ بين سطور قصصه مثل "السيدة صاحبة الكلب"، وسنحاول معاً فك شفرة تلك البندقية المعلقة على الحائط في مسرحياته، التي قد لا تطلق النار أبداً، لكن وجودها وحده يغير كل شيء.
يقول الباحث في تاريخ الأدب والثقافة الروسية الأستاذ محمد البيطار، في حديث لبرنامجنا:
"مقولة تشيخوف الشهيرة "لا تضع بندقية في الفصل الأول إذا لم تكن تنوي إطلاقها في الأخير" تحمل في طياتِها رؤية فنية عميقة، فهي ترفض الدراما المفتعلة وفي نفس الوقت تدعونا لقراءة ما بين السطور. لأن "استخدام" البندقية قد يكون نفسيًا ورمزيًا وليس مجرد حدث درامي صاخب. هي دعوة للاقتصاد الفني الذكي، حيث لكل عنصر دوره في بناء عالم القصة، سواء كان هذا الدور ظاهرًا للعيان أو مخفيًا بين السطور".
ويشير البيطار إلى أن "النقاد يصفون عالم تشيخوف بأنه عالم من "اللامبالاة المحبطة". لكن في الحقيقة أن هذه اللامبالاة تعكس كلاً من السخرية والتعاطف في آن معاً، لكن بطريقة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه.
هذه "اللامبالاة المحبطة "هي مرآة تشيخوف الشهيرة التي يضعها أمامنا جميعاً. هو لا يخبرنا بأن الحياة مأساة، بل يظهر لنا كيف نخلق مآسينا الصغيرة من خلال عجزنا ولامبالاتنا، ويفعل هذا بدون اتهام، بل بدعوة صامتة للصحوة.
ولفت البيطار إلى أن قصة "السيدة صاحبة الكلب"هي تحفة تشيخوف في استخدام اللغة غير المباشرة لنقل مشاعر هائلة. إن رفضه للاعترافات العاطفية المباشرة هو بالضبط ما يجعل العلاقة بين غوروف وآنا سيرغييفنا عميقة جدًا وواقعية. فالصمت في القصة ليس فراغًا، بل هو حوار كامل المشاعر. فنظرات العيون هي الوسيلة الأساسية للتواصل في القصة، فالعيون بمثابة نوافذ إلى العالم السري للعاشقين.
التفاصيل في الملف الصوتي المرفق...