هنا، تصبح القذائف وبقايا الانفجارات منحوتات تحكي وجوه الناس وذكريات الطفولة ومشاهد القرية التي لم تغب عن ذاكرته، من فلاح يحرس أرضه وفرقة موسيقية ودبكة قروية، إلى أم تحمل قذيفة كما لو أنها طفلها، ومراكب صيد وشراعية، ووالدين يمشيان يتوسطهما طفلهما، ورجل وحيد على مقعد، وطفل يتأرجح متدليًا من قذيفة، وجنازة يحمل أهلها قذيفة كأنها نعش. حتى القذيفتان من عيار 240 ملم تظهران هنا في مشهد رومانسي كأنهما يحتضنان بعضهما بعضا.
هذه الأعمال ليست مجرد تشكيلات من معدن، بل ذاكرة عاشها نصّار بين البلدة والتهجير خلال حرب الجبل. من تلك التجربة القاسية ولدت رسالته: تحويل الشظايا من رمز للدمار إلى فن يحمل السلام ويستخرج الأمل من قلب الألم.
وحول بداياته مع الفن والحدادة، يقول نصّار: "بلدتي رمحالا هجّرت منها منذ حوالي 25 عامًا، وعدت إليها اليوم كفنان بعدما درست الرسم، رغم أنني أعمل في الحدادة، وهي المهنة التي ورثتها عن والدي. هذا التشابك بين الرسم والحدادة جعلني أجسّد رسوماتي بالحديد وأحوّل المعدن البارد إلى أشكال نابضة بالحياة".
ويضيف متحدثًا عن العلاقة بين الحرب وبدايات مشروعه "مرّت علينا الحروب من انفجار مرفأ بيروت إلى معركة نهر البارد وحرب تموز وما قبلها. وكوني متمكنًا من الحدادة، كنت أجمع قطع الشظايا من الحي. أول قذيفة أصابت منزل الجيران وتشظّت علينا، فتضرر المنزل، فجمعت الشظايا وبدأت أصنع منها أشكالًا فنية".
وتابع: "في أحد الأيام دعيت إلى معرض، وأخذت معي هذه القطع، الناس أحبوها كثيرًا، وعدت إلى المنزل بالمال من دون القطع نفسها، من هنا بدأت المعركة بيني وبين الحرب والشظية صرت أتابع الأخبار، وعندما كان يتوقف القصف كنت أقصد مناطق الاشتباك لأجمع الشظايا ومع الوقت ارتفع عدد القطع الفنية".
ويتابع: "بعد ذلك أنشأت غرفة للجلسات العائلية، ثم عرضت القطع على رفوف حفرتها في جدران النفق، الزوار أحبوا المشهد وطلبوا مني تحويله إلى متحف، عندها قدمت طلبًا لوزارة الثقافة، وخلال الكشف الميداني طلب مني إنشاء مخرج طوارئ للحصول على الترخيص وإدراج المكان ضمن لائحة المتاحف الوطنية".
ويضيف: "تحمّست للفكرة، لكن لم يكن لدي الوقت الكافي، ومع تفشي جائحة كورونا وبقائنا في المنازل بدأنا العمل يوميًا، نحفر نصف متر مكعب كل ليلة، وبعد سنة ونصف أصبح طول النفق 120 مترًا، وسجّل رسميًا كمتحف على لائحة المتاحف الوطنية".
وحول القيمة العاطفية لكل قطعة، يشرح نصار: "كل قطعة صنعتها من الشظايا لها معنى عندي لأنني عشت الحرب. في البداية كانت فشّة خلق. كنا نخرج من الملجأ ونرى الشظايا، ومع تهجيري 25 سنة لم أعتبر أن لدي عدوًا سوى الشظية نفسها. لذلك أخذتها ونظفتها وأحببتها وصرت أصنع منها أشكالًا تعبر عن الموسيقى والفلاحين والعادات القروية، وليس عن الحرب".
وحول تفاعل الزوار، يقول نصار: "أحببت تفاعل الناس بعد افتتاح المتحف. كل شخص يأتي يروي قصته، وهذه القصص تشبه قصتي. أنا ترجمت تجربتي بالشظايا، وهم يترجمونها بالكلام والذكريات".
وفي ختام حديثه، يؤكد: "رسالتي ليست درسًا بل تجربة، هناك دائمًا شيء إيجابي يجب أن نتمسك به. ولأولادي وللجيل القادم أقول: لا تيأسوا، هناك نور دائمًا في آخر النفق، الحياة لا تستحق الحزن والدم، وحتى لو فُرض علينا هذا الواقع، يمكننا تغييره من الداخل، تجربتي علّمتني أن من الحزن يولد الفرح، ومن الألم يولد الأمل".