وإذا ما عدنا إلى الأذهان، فقد هاجمت القوات النازية الألمانية الاتحاد السوفيتي في صيف عام 1941، واندلعت حرب دامية تعتبر الأكثر وحشية في تاريخ روسيا. وبطبيعة الحال، فقد كانت الجيوش تقاتل بشراسة على مختلف الجبهات، وكانت أجهزة الاستخبارات تعمل خارج وداخل عمق العدو. وبعد وقت قصير من بداية الحرب، اكتشفت إدارة مكافحة التجسس السوفيتية وجود مجموعة من أنصار الحكم القيصري والذين أطلق عليهم مجموعة "العرش". ولقد كانت هذه المجموعة تضم رجالاً من كبار السن الذين لا يمكنهم أن يشكلوا خطراً على البلاد، لكنهم في الوقت نفسه كانوا يتوقعون وينتظرون وصول النازيين للإطاحة بالبلاشفة.
على أثر ذلك اجتاز ديميانوف خطوط الجبهة الأمامية، في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 1941. وخلال عملية الاستجواب التي قام بها عناصر الاستخبارات النازية، صرح ألكسندر بأنه ومنظمته راغبون العمل لصالح ألمانيا. وكما هو معتاد، فقد تحقق النازيون من هذه المعلومات لفترة طويلة من الزمن، حتى أنهم افتعلوا عملية إعدام بالرصاص بحق ديميانوف، لكن الأخير وتحت تهديد القتل والموت تمسك بموقفه حتى النهاية. علاوة على ذلك، قام العملاء الألمانيون بزيارة لأعضاء مجموعة أنصار الحكم القيصري في موسكو الذين أكدوا قصة العميل السوفيتي، عندها اكتسب الأخير ثقة الألمان. وفي ربيع عام 1942، تم إرسال العميل "غيني" لصالح جهاز المخابرات الألمانية إلى العمق السوفيتي.
وبعد عودته إلى بلده بدأ ديميانوف بتزويد الألمان بمعلومات هامة أعدت بمهارة فائقة من أجل تضليل النازيين، ومع مرور الوقت ارتقى ألكسندر في منصبه، وأخبر برلين بأنه تمكن من شغل منصب مرموق في رئاسة هيئة الأركان السوفيتية. وبفضل الترقي الجديد أصبح الألمان يحصلون من العميل السوفيتي على معلومات مضللة بشكل تفوق المعلومات التي كان يرسلها سابقاً بعدة مرات.
بعد ذلك التقى ديميانوف في مكان متفق عليه سابقاً بالعملاء الألمانيين والمخربين، الذين أصبحوا بين قبضة عناصر مكافحة التجسس السوفيتية الذين قاموا بالقبض على بعضهم ومراقبة آخرين لاكتشاف ورصد وجود علاقات أخرى ذات صلة بالنازيين، كما تم القبض على مجموعة "العرش" أيضاً. وفي عام 1942، كتبت الصحف السوفيتية عن وجود عملية تخريبية للعدو في إحدى أكبر المصانع العسكرية في سيبيريا، حيث شاهد المئات من السكان وسمعوا أصوات الانفجارات والحرائق التي اندلع لهيبها على أرض المصنع. وهنا أبلغ ديميانوف النازيين بأن عملية التخريب هذه كانت منظمة من قبل نشطاء مجموعة "العرش" تحت إمرته. أما في واقع الأمر، فقد كانت هذه مجرد تمثيلية أعدت بمهارة، لأن السوفيت كانوا يحضرون لهدم بناء قديم والإعداد لبناء مصنع جديد، وهذا كان محط استغلال من قبل المخابرات السوفيتية. وعلى أثر ذلك لم يصدق الألمان فقط هذه العملية، وإنما منحوا العميل "غيني" وسام "الصليب الحديدي" مقابل إنجازاته العسكرية التي حققها لصالح النازيين. وفي اليوم نفسه قلدت القيادة السوفيتية ديميانوف وسام "النجمة الحمراء"، وبهذا تمكن العميل الحصول على وسامين متناقضين تماماً في يوم واحد.
تجدر الإشارة إلى أن موسكو كانت قد تلقت تحذيرات عدة مرات من الحلفاء البريطانيين، بوجود جاسوس ألماني في الأركان العامة للقوات السوفيتية القادر على الوصول إلى المعلومات السرية الخاصة، بالطبع كانت هذه نص برقية مشفرة مرسلة من ديميانوف. على كل حال، فإن البريطانيين لم يكتشفوا الشخص الذي كان يعمل تحت قناع هذا الجاسوس، كما أن رئيس جهاز الاستخبارات الألماني والتر شيلينبيرغ لم يكن على علم بذلك، حتى أنه كتب في مذكراته بعد الحرب العالمية الثانية عن أحد العملاء الأكثر كفاءة، وبالطبع فإن الحديث يدور هنا عن ألكسندر ديميانوف.
أربع سنوات من التضليل تمكن "غيني" الاحتيال على الاستخبارات الألمانية، وما قام به ساعد القيادة السوفيتية للقيام بالعديد من العمليات العسكرية الناجحة ضد المضللين الألمان، كما تمكن ديميانوف فضح أكثر من 50 جاسوساً ومخرباً للعدو الفاشي. لكن الألمان كانوا يصدقونه حتى أنهم استمروا الاتصال به حتى بعد أن اقتحمت القوات السوفيتية مدينة برلين، علماً أن البرقية الأخيرة التي حصل عليها من "رؤسائه" المخدوع بهم كانت في شهر أيار/ مايو 1945، جاء فيها ما يلي: "لقد تمكن العدو من هزم ألمانيا، لذا نقطع اتصالنا، شكراً لخدماتكم". وعلى أثر ذلك انتهت الحرب وانتهت معها عملية "الدير".
وبعد الانتصار عمل ألكسندر ديميانوف مهندساً في أحد معاهد موسكو، وتوفي عام 1978، مع الإشارة إلى أنه لم يتم الكشف عن منجزات ونشاط المهندس المتواضع في الاستخبارات السوفيتية إلا بعد مرور عقود من الزمن.