بالإضافة إلى ذلك، الناس غالبا ما يعتقدون أن هذه الأمور بسيطة، وتقريبا بلمسة لوحة المفاتيح — يتم إرسال الوثائق واستقبالها، وتوقيع الصفقة، وإرسال البضاعة ومن ثم استلام ثمنها، هكذا ببساطة… هذا كله قد يكون صحيح في أيامنا هذه.
ولكن كيف كانت الحال في بابل القديمة؟
في الحقيقة أن الكتابة على الطين من الفنون الصعبة جدا، وليس كل واحد يستطيع أن يجد الوقت ويملك الجهد، وحتى الرغبة لإتقان هذا الفن. حيث كان من الأسهل استئجار كاتب. في ذلك الوقت كان الكاتب الشخصي بمثابة السكرتير الآن، لا غنى لرجل الأعمال عنه. أضف إلى ذلك أن الأشخاص الذين يجيدون هذا الفن كانوا قليلين جدا، عدا الكتبة طبعا، حتى أن الملوك كانوا يتفاخرون أحيانا بقدرتهم على القراءة والكتابة!
ولكن على الرغم من كل هذا، فقد خلف لنا سكان ما بين النهرين القديمين، قدرا كبيرا من المخطوطات المتعلقة بالمعاملات التجارية. فقد نص قانون هناك، اتخذ عام 2000 قبل الميلاد، على أن أي معاملة تجارية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، يجب أن تسجل على النحو المطلوب، وأن توقع من الطرفين ومن الشهود.
للمقارنة، نقول أن "أحكام التزوير" التي تطالب بكتابة العقد خطيا، اعتمدت في إنجلترا فقط في القرن السابع عشر! فأين كان التقدم الاجتماعي…في بابل أم في عصرنا هذا؟
هنا ينشأ سؤال منطقي، عن أي تواقيع نتحدث إذا الأغلبية الساحقة لا تجيد الكتابة والقراءة؟ مع ذلك، فقد وجد القدماء حلا بسيطا ومبتكرا. كل واحد كان يعلق توقيعه على رقبته! كان التوقيع يشبه ختما حجريا صغيرا، منحوت عليه رمز معين للمالك. عندما تجهز الوثيقة، تضع الأطراف المتعاقدة والشهود أختامها، ويسجل الكاتب أسماءهم بجانب التواقيع.
"بورصة" بابل
الحياة التجارية في الحضارة البابلية كانت تقوم على قدم وساق في البازارات عند أبواب المدن، كانت هذه البازارات نوع من أنواع البورصة. يجتمع الناس ويناقشون القضايا الراهنة أو ينتظرون أخبارا جديدة، والكتبة يعرضون خدماتهم لمن يحتاجها. طبعا لم يكن لديهم لا ورق ولا أقلام، بل كتل من الطين وعِصِيٌّ من القصب للكتابة. فعندما تتفق الأطراف على صفقة بشكل شفهي، بعدها يأتي دور الكاتب، فتتتحرك يده بسرعة، وتقلب عصا القصب عموديا، وأفقيا، فتظهر العلامات اللازمة والرموز على الطين. ورغم أن معظم المشاركين في العقد لا يجيدون قراءة ما هو مكتوب، فإنهم كانوا يضعون أختامهم الخاصة — فيصبح العقد جاهزا. وأحيانا كان يكتب نسختين من العقد — لكل طرف نسخة، ولكن كان هذا يحدث نادرا، ففي الكثير من الأحيان يقتصر الأمرعلى نسخة واحدة.
حفظ المعلومات
لحفظ العقود المكتوبة على الطين من التزوير والإضافة، تم استخدام نوع من "المغلفات". وكانت تتم على النحو التالي: عندما يتم الانتهاء من النص على لوحة الطين بشكل صحيح ومصدق، يأخذ الكاتب قطعة أخرى من الطين، ويدلكها على سطح مستو، كما تدلك قطعة العجين. بعد هذا يقوم الكاتب بكتابة نص العقد من جديد، على لوحة أخرى أصغر من اللوحة الأولى، وتوضع الأختام من جديد أيضا، ثم توضع هذه اللوحة ضمن اللوحة المدلوكة، وتلف هذه اللوحة ضمن الورقة الرقيقة من الطين، وتطوى حوافها وتغلق، في الواقع، كانت هذه "المغلفات" أكثر أهمية من الوثيقة نفسها، لأنها محصنة من التزوير!
فإذا حدث أي خلاف، كانت الأطراف تذهب إلى الحاكم، ويقوم الحاكم بكسر "المغلف"، والمقارنة بين النصوص داخل وخارج المغلف ويصدر الحكم على أساسها.
موقع ومختوم…
وهكذا، كان القانون ينص بصرامة أن يتم توثيق أي صفقة. "القانون صارم، ولكنه قانون"، هكذا كانوا يقولون ولكن في روما وليس في بابل. فعلى سبيل المثال، إذا كان شخص يريد استئجار منزل، كان عليه أن يحدد — أي منزل، ومن هو صاحبه، وإلى متى، وكم سعره. وكانت توثق القروض النقدية والقروض العقارية أيضا، والبيوت التجارية كانت دائما تجدد بانتظام الاتفاقيات مع وكلائها. وأرباب العمل كانوا أيضا يوثقون عقودهم مع عمالهم، لماذا ومتى وما هو الميلغ الي سيستلمه العامل. وكانت تنظم أيضا المسائل العائلية — الزواج والطلاق، والميراث، وحتى الخطبة.
قد يسأل سائل هل هذه المعلومات الموجودة في النصوص الآشورية البابلية، مهمة بالنسبة للناس، باستثناء الخبراء؟ بالطبع نعم، بفضل هذه المعلومات، يمكننا أن نعرف كيف كانت حياة الناس في تلك الأيام وبقدر كبير من التفصيل كما لو أننا نسافر في مكنة الزمن.