عامر راشد
يمثِّل صراع الهويات الفرعية، الدينية والطائفية والإثنية والجهوية.. الخ، أحد العوامل الرئيسية في استعصاء حل الأزمات الطاحنة بوسائل دبلوماسية في بعض البلدان العربية، مثل العراق وسورية وليبيا واليمن، وبقراءة عكسية لهذا المعطى، إن صعود الهويات الفرعية بتعبيرات سياسية يعني تآكل مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، التي كان يعتقد إلى وقت قريب أنها تبلورت، ونسف مقومات الدولة الوطنية، التي كان يعتقد أيضاً بأنها باتت مستقرة إلى حد بعيد.
ويخلع صراعات الهويات الفرعية أبعاداً أكثر تعقيداً على الأزمات، في البلدان المذكورة، وفي بلدان أخرى تعاني من صراعات شبيهة تعتمل تحت السطح، ويجري إنكارها أو بالأحرى تجاهلها، فالهويات الفرعية بدورها منقسمة على ذاتها، وهي مرشحة لصراعات داخلية تعيد "تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ"، في متوالية غير متناهية، فالأديان طوائف ومذاهب، ولا توجد هوية إثنية خالصة في نقائها، والهوية القبلية جزء من كل وليس العكس، ولا تمتلك مقومات هوية مجتمعية مستقلة ومتكاملة.
لتقريب الفكرة على نحو تطبيقي، على سبيل المثال لا الحصر، ينقسم الإسلام إلى مذهبين رئيسيين، سني وشيعي، وينقسم السنة إلى أربعة مذاهب رئيسية، المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، تتفرع عنها العديد من الفرق. وينقسم الشيعة إلى مذهبين رئيسيين، الجعفري والزيدي، بالإضافة إلى الإسماعيلية والعلوية، وينقسم المذهب الزيدي، الذي يصنفه كثير من الفقهاء بأنه أقرب للمذاهب السنية، إلى فرقتين رئيسيتين، الهادوية والجارودية.. وهكذا دواليك.
ولو أخذنا الهوية الكردية، كمثال على الهوية الإثنية- القومية الفرعية في العراق وسورية وتركيا وإيران، باعتبارها تقدَّم على أنها الأكثر تبلوراً من بين الهويات الفرعية في تلك البلدان، نجد أنها تتكون من هويتين إثنيتين رئيسيتين، سورانية وكرمانجية، تشملان خليطاً من الهويات الدينية والطائفية والمذهبية، سنة وشيعة ومسيحيون وشبك وإيزيديون وكورانيون وفيليون..
والمثالان السابقان يثبتان عدم دقة الحديث عن وجود هويات فرعية ناضجة ومستقلة بذاتها، يمكن لها أن تكون بديلاً عن الهويات الوطنية الجامعة، في البلدان المشار إليها، لكن رغم هذا الاستخلاص ثمة أسباب واقعية لنشوء الصراع بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الموحدة، بفعل أخطاء متراكمة وغياب المعالجات لحل التعارض، وعدم تثبيت كيانات وطنية عابرة للهويات الفرعية، ومستقرة وقادرة على التطور والارتقاء، بما يمنع تحوَّل مكون مجتمعي بعينه، يمتلك هوية فرعية، إلى تعبير سياسي احتجاجي يسعى إلى كيانية خاصة منفصلة عن الكيان الوطني، أو الهيمنة على المكونات المجتمعية الأخرى.
ومن أسباب نشوء ظاهرة التطرف وتمددها في بعض البلدان العربية، أنها استطاعت اللعب على التناقضات بين الهويات الفرعية والوطنية المشتركة، فتنظيم (داعش) ما كان له أن يسيطر على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية، لولا ضعف بنية المجتمع المحلي، وإنهاكها أكثر في السنوات القليلة الماضية، بارتفاع منسوب التحريض والحقن الطائفي والإثني في الخطاب السياسي والإعلامي، لإضفاء بعد طائفي واثني على الصراع السياسي، يصعب معه إيجاد حلول دبلوماسية، ويتيح للمتطرفين بيئة اجتماعية حاضنة وداعمة لهم.
وتتطلب المعالجة إنضاج الهويات الفرعية باعتبارها جزءاً من الهوية الوطنية، لا نقيضاً أو منافساً لها، بتخليص الأولى من الشوائب والطابع الملتبس، والارتقاء بمستوى تمثيل الثانية وإعادة تعريفها لتشمل كل مكونات الأولى، في دولة مواطنة، الوصول إليها يمر بعملية بناء ديمقراطي وإصلاحات جذرية، الفشل فيها سيبقي مجتمعات الدول العربية، التي تعصف فيها الأزمات، في حالة مراوحة وعجز، ومواجهة أزمات أشد في المستقبل، وظهور أشكال جديدة من الانقسامات المجتمعية والتطرف بمختلف أشكاله، وتحول دولها إلى دول فاشلة.
والجواب على سؤال ماذا بعد الحرب على تنظيم (داعش)؟ وثيق الارتباط بتعزيز مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، فإنهاء (داعش) كظاهرة إرهابية متطرفة لن يمنع نشوء ظواهر أخرى لا تقل عنها تطرفاً، وقد تتفوق عليها، إذا لم توضع حلول جذرية للصراع المصطنع بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية المشتركة والموحدة، والذي يشكِّل خزاناً لا ينضب لحروب بلا نهاية ولا قاع لها.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)