لكن في واقع الأمر، يتوخى حلف الناتو من ربط أوكرانيا بهياكله السياسية والعسكرية، عزلها كليا عن روسيا ودق إسفين بينهما، وتحويلها إلى رأس جسر لممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد روسيا، وتأمين الجناح الشرقي لحلف الناتو الممتد من دول البلطيق شمالا حتى البحر الأسود جنوبا.
وعلى وجه العموم، يثير توسّع الناتو نحو الشرق قلق موسكو الشديد، خاصة وأن الحلف لم يلتزم بتنفيذ وعوده لروسيا بعدم إقدامه على الاقتراب من حدودها وضم الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى عضويته.
لقد وجدت هواجس موسكو مبرراتها في الممارسة العملية لحلف الناتو، والتي تجسدت في المهمة المطروحة أمام الحلف بإلحاح ، والمتمثلة في "إعادة التفكير في العلاقات الطويلة الأمد مع روسيا الاتحادية" التي تصدرت جدول أعمال القمة الدورية لحلف الناتو المنعقدة، في أيلول/ سبتمبر2014، في مدينة نيوبورت بمقاطعة ويلز البريطانية.
ويرى القائمون على الأمن الأطلسي أن "العودة إلى الشراكة الاستراتيجية بين الناتو وروسيا غير ممكنة". وقد تم التأكيد على هذا الموقف بوضوح من قبل ألكسندر فيرشبوي الدبلوماسي الأمريكي البارز ونائب الأمين العام لحلف الناتو، معلنا، في 13 حزيران/ يونيو 2014، في كلمته أمام خريجي "كلية دفاع الناتو" في روما، "أن حلف الناتو لا ينظر إلى روسيا باعتبارها شريكا". هذه العبارة مثبتة في مشروع القانون الأمريكي "حول مقاومة عدوان روسيا". أمام غطرسة وخداع ومكر واشنطن وحلف الناتو، كان لا بد لموسكو من التصدي بصلابة للزحف المطرد للناتو نحو الشرق، متّقية شر الطبيعة العدوانية لسياسة واشنطن وحلفها، ومتيقّنة من هراء الوعود المعسولة التي قدمها كبار المسؤولين في عواصم الناتو، بأن الحلف "لن يتقدم شبرا واحدا نحو الشرق…في حال تم إعادة توحيد ألمانيا" ــ طبقا لما وعد به وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف.
وهكذا يواصل حلف الناتو توسعه باتجاه الحدود الروسية، وأمامه حاليا مهمة تهيئة الأرضية لجرّ أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا إلى فلكه. وقد أصبحت "الثورات الملونة" والحروب الأهلية في هذه الجمهوريات أحد الأساليب المفضلة والناجعة لواشنطن وحلف الناتو للتدخل السافر في شؤونها،على غرار أحداث "الربيع العربي" وفظائعه الشنيعة من قتل وإجرام وتدمير منظم لدول بأكملها.
تجدر الإشارة إلى أن الأزمة الأوكرانية لم تبدأ من أحداث "الميدان" أو "يورو ميدان" في العاصمة كييف، التي اندلعت يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، ثم تدحرجت لاحقا إلى مواجهات مسلحة في العديد من المدن الأوكرانية، منتهية في 22 شباط/ فبراير 2014، بعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وسيطرة القوى والأحزاب الموالية للغرب، والمعادية لروسيا، على السلطة. وإنما بداية الأزمة كانت مع اندلاع "الثورة البرتقالية" في نهاية عام 2004، والتي خيّبت آمال الجماهير التي شاركت فيها، وأوصلت إلى السلطة أشخاصا تابعين للغرب، وقد وضعوا على رأس أولوياتهم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو. أما "يورو ميدان ــ 2013"، فقد شكّل ذروة التحول الدراماتيكي في الأزمة الأوكرانية، حيث بدا واضحا أن المشكلة الأوكرانية التي تحولت إلى أزمة مع "الثورة البرتقالية"، دخلت مع "يورو ميدان" مرحلة الحرب الدموية بتخطيط وإدارة وإشراف مباشر ــ كما تؤكد المصادر الموثوقة ــ من قبل المخابرات المركزية الأمريكية وبعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية الأخرى.
فيما يتعلق بمسيرة التقارب بين أوكرنيا وحلف الناتو، فقد جرى تثبيت هذا النهج من خلال توقيع "ميثاق الشراكة المميزة" بين حلف الناتو وأوكرانيا في عهد الرئيس ليونيد كوتشما، عام 1997. وفي عام 2002، تحولت "الشراكة المميزة" إلى "خطة عمل" تم تحديدها في وثيقة تضمنت إعلان الاندماج التام في الهياكل العسكرية الأوروأطلسية كأحد مبادئ السياسة الخارجية والعسكرية لأوكرانيا.
وكان على كييف أن تبرهن لشركائها في حلف الناتو مدى مصداقيتها لإزالة أي شكوك لديهم في التزامها بالتكامل، ولهذه الغاية وافقت كييف على تزويد أجهزة الناتو الاستخباراتية بالمعلومات السرية ذات القيمة العسكرية. مع اندلاع "الثورة البرتقالية"، جرى العمل على تسريع التقارب مع حلف الناتو، حيث وقّع الرئيس فيكتور يوشينكو، في آذار/ مارس 2006، مرسوما "حول النظام الوطني لتنسيق تعاون أوكرانيا مع حلف شمال الأطلسي، بهدف إعداد أوكرانيا للانضمام إلى الحلف. غير أن الحلف رفض حينها (في عام 2008) مبادرة واشنطن بضم أوكرانيا وجورجيا إلى عضويته، لأنه لا يريد استيراد المشاكل الأمنية المتأتية من الدول غير المنضوية فيه. مع مجيء فيكتور يانوكوفيتش إلى السلطة في عام 2010، تم اعتماد سياسة "عدم الإنخراط في الأحلاف".
لكن التعاون العسكري بين كييف والناتو استمر، فيما تباطأت، على المستوى السياسي، عملية جر أوكرانيا للحلف. وقد ألغى يانوكوفيتش "المركز الوطني لشؤون التكامل الأوروبي الأطلسي لأوكرانيا (في نيسان/ أبريل 2010)، وكذلك "اللجنة المشتركة بين الإدارات لشؤون إعداد أوكرانيا للانضمام إلى الناتو(في عام 2010). وفي يوليو/ تموز 2010، أقرّ مجلس النواب (الرادا) الأوكراني قانونا حول "مبادئ السياسة الداخلية والخارجية"، والذي ينص على عدم انضمام أوكرانيا إلى الأحلاف السياسية ــ العسكرية. لكن تبيّن لاحقا أن رفض ضم أوكرانيا إلى الناتو تم تعويضه بالتكامل العسكري ــ السياسي مع الاتحاد الأوروبي. وبالفعل، فقد توصلت كييف وبروكسل، في كانون الأول/ ديسمبر 2011، إلى وضع نص اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الاوروبي. وفي 27 حزيران/ يونيو2014، تم توقيعها النهائي من قبل الرئيس الأوكراني بيوتر بوروشينكو.
وبهذه الاتفاقية، بدأت عملية جرّ أوكرانيا إلى التعاون العسكري ــ السياسي مع حلف الناتو عبر الاتحاد الأوروبي. وتُلزم بنود الاتفاقية الانضمام إلى "السياسة الأمنية والدفاعية العامة" للاتحاد الأوروبي والمرتبطة ارتباطا وثيقا بسياسة حلف الناتو. وقد جرى توقيع الاتفاقية على خلفية الانقلاب على الرئيس يانوكوفيتش في شباط / فبراير 2014، ثم استعادة القرم لهويتها الروسية في آذار/ مارس من العام ذاته، وما أعقبها من حرب كييف على "دونباس" بعد شهرين من ذلك، على أثر إعلان أهاليها جمهوريتي دانيتسك ولوغانسك الشعبيتين والرافضتين للسلطات الانقلابية في كييف. وقد تطلبت هذه الحرب عاما تقريبا ليتم التوصل إلى وقف إطلاق النار بموجب اتفاقية مينسك التي وقّعت في 12 شباط/ فبراير 2015، من قبل رؤساء "رباعية النورماندي" (روسيا، ألمانيا، فرنسا، أوكرانيا).
ومع ذلك لم يوقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نظام العقوبات المفروض على روسيا بحجة ضم القرم وشن العدوان على أوكرانيا، لا بل أعلنت واشنطن عن نيتها تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة، فضلا عن قيامها مع حلفائها في حلف الناتو في تعزيز القواعد والمنشآت الحربية وإجراء المناورات العسكرية على أراضي الدول القريبة من الحدود الروسية. وفي المحصلة، يسود الاعتقاد بأن كييف، وقد منيت بالهزيمة في حربها ضد الدونباس، وفقدت القرم إلى غير رجعة، ستكون أداة طيّعة في أيدي واشنطن وحلف الناتو، وستقبل بأي طريقة للارتماء في أحضانهما إن كان ذلك على شكل انضمام مباشر إلى الناتو أم الاكتفاء حاليا بوضع "الشريك الممتاز".
لكن الكلمة النهائية في تحديد مصير أوكرانيا تبقى للشعب الأوكراني نفسه.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)