تطالعنا الأخبار في شكل شبه يومي عن عمليات تقوم بها أجهزة أمنية، في أكثر من بلد، لمنع عمليات تجنيد شباب للالتحاق بتنظيم (داعش) الإرهابي، أو عمليات تسلل من الأراضي التركية إلى الأراضي السورية، وآخرها إعلان الشرطة التركية قبل يومين أنها اعتقلت مؤخراً عشرين شاباً، يحمل معظمهم جنسيات بلدان أوروبية، كانوا يريدون الانضمام إلى مقاتلي (داعش) في محافظة الرقة شمال سورية.
بالتدقيق في الواقعة المذكورة، وفي وقائع سابقة ومشابهة، نلاحظ أن الشباب الذين يتم إلقاء القبض عليهم يتمتعون بمستوى مادي جيد وتحصيل علمي متقدم واستقرار عائلي، وكذلك غالبية من قدموا من البلدان الأوروبية وعبروا الحدود السورية بطرق غير شرعية والتحقوا بتنظيم (داعش)، وينطبق هذا أيضاً بدرجة أقل نسبياً على من قدموا من المغرب العربي.
ولا تقتصر هذه الملاحظة على القادمين من أوروبا والبلدان الغربية أو بلدان المغرب العربي، ففي العراق تفيد معلومات متقاطعة أن عدداً كبيرة من الضباط السابقين في الجيش العراقي يتولون مهام قيادية في هيكلية (داعش)، وهم من يشرفون عملياً على التخطيط للعمليات التي يشنها ويقومون بإدارتها ميدانياً، ومن المعروف أن الضباط يتخرجون من كليات عسكرية توازي في سنوات دراستها الدراسة الجامعية، أي أنهم يعدون من حملة الشهادات العلمية العليا.
واستفاد تنظيم (داعش) من هذه ميزة اجتذاب مجموعات من الشباب المتعلم، لاسيما من الدول الغربية، في امتلاك حضور إعلامي كبير، مع تقنيات متطورة في تحرير الخبر والتصوير والإخراج، والنشر والبث بالصوت والصورة، بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية إلى جانب العربية، عبر مواقع متعددة على شبكة الانترنت، والأهم من كل ذلك امتلاك خلايا نائمة في العديد من البلدان العربية والغربية، وبلدان العالم الأخرى، تقوم بنشر أفكار (داعش) والدعاية له، وتوفير تمويل له، وتزويده بمقاتلين يتحولون سريعاً إلى قاطعي رؤوس، وتكفيريين وموغلين في التعصب الأعمى.
والسؤال هنا كيف يمكن أن يتحول شاب متعلم ومستقر أسرياً ومادياً، ويحمل جنسية بلد متطور وغني ومنفتح ثقافياً واجتماعياً، إلى قاتل لا يرحم؟ وما هو السر الذي يمكِّن تنظيم (داعش) من القيام بعمليات غسل لأدمغة الآلاف من الشباب، وزرع سموم تطرفه في عقولهم وعقول المقربين منهم؟
مصاعب ومعوقات الاندماج في الأوطان الجديدة، ومشاعر الإحباط والإحساس بعدم وجود مساواة، وما تقوم به الأحزاب اليمينية العنصرية المتطرفة ضدهم، تمثل كلها عوامل تساعد على انحراف قطاع من الشباب نحو التطرف، لكن كل هذه الأسباب المشار إليها، دون التقليل من تأثيراتها السلبية الكبيرة، لا يمكن اعتبارها كافية للانحراف على نحو دراماتيكي، بما يقود الشباب للالتحاق بتنظيم (داعش) الإرهابي، فأي حالة سوية تفترض أنهم يستطيعون تحويل المعاناة، جراء مصاعب الاندماج والتمييز الممارس بحقهم، إلى دافع لتوحيد صفوفهم وخوض نضالات مطلبية داخل أوطانهم الجديدة، ودحض الصورة النمطية التي تحاول جهات عنصرية متطرفة وصمهم بها لمجرد أنهم مسلمون، والدحض يكون من خلال تقديم صورة مشرفة لمعتقداتهم وثقافتهم وقيمهم.
بيد أن عوامل غير مرئية، أو لا يسلط عليها الضوء عادة، تجعل فئة من الشباب تستسهل الانسياق وراء التطرف والإرهاب، ظناً منها أنها تنفس عن غضبها العميق، ومن تلك العوامل الخلل في التنشئة الاجتماعية والتربية الأسرية، وحالة الفوضى في الخطاب الديني، بالإضافة إلى عهود القمع والاضطهاد وغياب الحريات السياسية والاجتماعية في بلدانهم الأصلية، وكل عامل من تلك العوامل يشكِّل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
ومن نافلة القول؛ إن مقاومة التطرف والإرهاب الدموي تتطلب على المدى الطويل البدء من ضمان وجود عوامل تنشئة سليمة، وتربية أسرية صحيحة، وتنقية الخطاب الديني من الشوائب المتراكمة التي علقت به، وفتح آفاق للتغيير الديمقراطي والتعددية واحترام حقوق المواطنة، كجزء من ثقافة حياة تبدأ من كل بيت في مواجهة همجية القتل وجهالة التكفير، وهذا يضمن أن لا تنشأ في المستقبل ظواهر مثل (داعش) أو أشد منه تطرفاً ودموية.