يحفل التاريخ المعاصر بالعشرات من الأمثلة على احتجاجات شعبية ضد سلطة قائمة، أو نعرات مجتمعية تحولَّت إلى صراعات دموية طاحنة، عندما تداخلت في مسار الاحتجاجات عوامل مستمدة من الواقع السياسي، في شكل وآخر، مع عوامل مصطنعة، لحرف الصراع السياسي عن مساره، بإعطائه أبعاداً طائفية أو قبلية أو جهوية — إثنية، لتفجير أحداث عنف تقود إلى صراع مسلح وتعمل على استمراره.
من الأمثلة على ذلك مجازر رواندا في تسعينيات القرن الماضي، بتحول الصراع على السلطة إلى حرب قبليِّة بين قبلية "الهوتو"، التي تمثل أغلبية السكان، وقبيلة "التوتسي"، التي تمثل الأقلية، شن خلالها مقاتلو "الهوتو" حرب إبادة ضد أبناء "التوتسي" راح ضحيتها أكثر من 800 ألف ضحية، لم تتمكن العدالة الدولية حتى اليوم من أن تقتص لهم من الجناة. ولعب الاستعمار البلجيكي دوراً كبيراً في تغذية الصراع القبلي في رواندا لإحكام سيطرته عليها.
مثال آخر من أفريقيا؛ ترزح نيجيريا منذ استقلالها تحت وطأة فشل صهر الإثنيات والأقليات في بوتقة مجمعية واحدة، وشهدت خلال تاريخها جولات من العنف الدموي فجَّرها استياء سياسي أو الصراع على الأرض، وأُصبِغ عليه أبعاداً قبلية بين القبائل الكبرى وأهمها "الهوسا" و"الفولاني" و"اليوروبا" و"الإيبو" و"البروم"، وعباءة طائفية بين المسلمين والمسيحيين، رغم أن قبائل مثل اليوروبا تضم مسلمين ومسيحيين، وجماعة "بوكو حرام" تمثل ثمرة مرَّة من ثمار جرِّ الصراعات السياسية إلى مستنقع الطائفية والقبلية.
القارة الأوروبية عانت أيضاً القرنين السادس عشر والسابع عشر من حرب طائفية طاحنة، بين البروتستانت والكاثوليك، أبيد فيها أكثر من 40% من شعوب أوروبا التي كانت تعتنق البروتستانتية، في حرب أشعلتها الكنيسة الكاثوليكية تحت مسمى "الحرب المقدسة ضد الخارجين عن الديانة المسيحية"، ولم تتوقف الحروب إلا بعد أن أرهقت الجميع وأثخنتهم. وبالطبع يمكن إعطاء أمثلة إضافية من القارة الآسيوية، لكن الأمثلة السابقة تفي بالغرض.
بالانتقال إلى الوقت الراهن تعاني بعض البلدان العربية، التي تعيش أزمات حادة، من تركيب بعد طائفي أو قبلي أو جهوي — إثني على الصراعات السياسية المحتدمة فيها، وغالباً ما تجمع في ثناياها أكثر من بعدٍ مصطنع، في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان، وهو ما بات يغطي على العوامل السياسية في نشوء الأزمات وتصاعدها، بما يرتد بمجتمعات تلك الدول إلى صراعات "ما قبل دولتية"، أي صراعات أرضيتها وأدواتها البنى القديمة التي سبقت نشوء الدولة.
العراق دخل منذ الاحتلال الأميركي في نفق صراع على السلطة، بدأ باحتجاجات على عدم المساواة بين كل المكونات المجتمعية العراقية، من خلال تعبيراتها السياسية، في مؤسسات وإدارات الدولة، وهيمنة مكون واحد عليها، واستبعاد وإقصاء المكونات الأخرى، وتكريس ذلك في نصوص دستورية. ونتيجة عدم اشتقاق معالجات مبدئية تم جر البلاد إلى مستنقع حرب أهلية، لم تنته ذيولها بعد، ومازال المجتمع العراقي يعاني من حالة استقطاب وانقسام حاد، رغم بروز ظاهرة تنظيم "داعش" الإرهابي المتطرف، وجرائمه بحق كل المكونات العراقية.
اليمن ارتدت فيه الأزمة من صراع مع أدوات الدولة لنظام الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، إلى صراع تتداخل فيه عوامل طائفية وقبيلة وجهوية، مصطنعة لأنها غريبة عن قيم الغالبية الساحقة من أبناء الشعب اليمني، التي رأيناها في سلمية الحراك الشعبي المعارض على امتداد أشهر طويلة.
أما في ليبيا فقد أدى انهيار بنية الدولة، الضعيفة أصلاً، إلى إيقاظ حساسيات قبلية وجهوية وإثنية — عرقية، عمل الاستعمار الإيطالي على تنميتها واستغلالها في الماضي، وتهدِّد في الصراع الجاري حالياً وحدة الشعب الليبي وأرضه ودولته. ولعب الاستعمار البريطاني لعبة مشابهة في السوادان إبان احتلاله، أدى اخفاق الحكومات السودانية بعد الاستقلال في معالجتها إلى حرب أهلية تحت عباءة طائفية بين الشمال والجنوب، انتهت عام 2011 بالانفصال، وحروب جهوية — عرقية يمكن أن تتكرر فيها مأساة الانفصال إذا لم تعالج الصراعات من جذورها.
المثال الأخير وربما الأكثر دراماتيكية، تعدُّ سورية من أكثر الدول العربية تطوراً لجهة نضج البنية المجتمعية ومستوى الثقافة والبناء المؤسسي الحكومي، إلا أن الأزمة التي تعصف بها منذ عام 2011 ارتدت بها نحو الخلف، حيث بدأت الشعارات الطائفية تغزو الخطاب السياسي والنشاط الإعلامي لبعض الأطراف المشاركة في القتال.
وفي كل الأزمات الداخلية العربية المذكورة، إن ايجاد مخارج سياسية للصراعات الدموية يتطلب الخروج من دوامة الثلاثي القاتل، الطائفية والجهوية — الإثنية والقبلية، وعنصر واحد من هذا الثلاثي يكفي لتقسيم شعب واغتيال وطن، بتغذية الحرب والعنف وتعطيل فرص البحث عن حلول دبلوماسية. ولذلك فإن بداية الخروج من الأزمات والصراعات يجب أن تنطلق من نقطة فك التداخل بين العوامل الواقعية، التي أدت إلى نشوب الأزمات والصراعات، والعوامل المصطنعة، التي تهدف إلى حرف الأزمات عن مسارها، لتعميقها وإدامتها.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)