اليمنيون على موعد مع مباحثات جنيف التي تشمل كل أطراف الأزمة في بلدهم، في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، برعاية الأمم المتحدة، وكانت العاصمة السعودية قد شهدت قبل بضعة أيام مؤتمراً شاركت به العديد من الأطراف، بدعوة من الرئيس عبد ربه منصور هادي، لكن غياب ممثلين عن الحوثيين وأنصار الرئيس السابق علي عبد الله صالح جعل من الصعب أن يخرج مؤتمر الرياض برؤية توافقية لإنهاء الصراع المسلح.
من هذه الزاوية فإن حظوظ مباحثات جنيف تمتلك حظوظاً أكبر، من الناحية النظرية، في احتمال النجاح بإيجاد مخارج دبلوماسية للأزمة اليمنية، إلا أن تعقيدات الأزمة وامتداداتها الإقليمية سترخي بظلالها على المباحثات، مما سيحولها أقرب ما يكون إلى تمارين تفاوضية، بينما تتواصل المعارك العنيفة على الأرض لتحقيق مكاسب عسكرية- جغرافية، وتعزيز الموقع التفاوضي، جنباً إلى جنب مع طرح مطالب الحد الأقصى على طاولة المفاوضات، بانتظار أن تتضح معادلة ميزان الصراع، بعد تجريب كل الخيارات المتاحة واستنفاذها، بهذا المعنى تتحول المفاوضات إلى ساحة خلفية للحرب، وهذه الحالة وقعت واختبرت مرات عديدة في صراعات إقليمية وداخلية، غير أن الدروس المستفادة منها تغيب عن ذهن المنخرطين في الصراعات القائمة حالياً.
اليمن في هذا المسار ليس استثناءاً في الخانة السلبية، فقد سبقته بسنوات التجربة السورية، حيث عقد مؤتمران في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، واستضافت موسكو جولتين من الحوارات، بمشاركة ممثلين عن بعض قوى المعارضة إلى جانب ممثلين عن الحكومة السورية، وسبق المؤتمر الأول والثاني في جنيف تصعيد عسكري ميداني، وطرح شروط متشددة للمشاركة في المؤتمر، وعلقت نتائج المؤتمرين عند تفسير البيان الصادر عن "جنيف1"، في نهاية حزيران (يونيو) 2012، وعلى ضوء ذلك خفَّض المبعوث الدولي إلى سورية، ستيفان دي مستورا، من سقف المراهنة على المباحثات التي انطلقت في جنيف بداية الشهر الجاري، بوصفة للمباحثات بأنها مجرد مشاورات وليست مباحثات سلام.
الليبيون مروا أيضاً بتجربة إجراء مباحثات في جنيف، وعشية الجولة الثانية من المباحثات حذَّر المبعوث الدولي الخاص إلى ليبيا، برناردينو ليون، من أن محادثات جنيف قد تكون آخر فرصة، وأن الوقت يكاد ينفذ، لكن لم يتمخض عن المباحثات نتائج عملية، وعقدت جولات لاحقة في الجزائر والمغرب، مازال المبعوث الدولي يحاول أن يبني عليها عناصر تسوية تكون مقبولة من الجانبين المتحاربين.
يعزى ما وصلت إليه مباحثات جنيف بخصوص الملفين السوري والليبي إلى الإخفاق في إيجاد مقاربات سياسية، تقر فيها الأطراف المتحاربة بأنه آن الأوان للعمل على بلورة تسوية دبلوماسية، ويستفاد من تجارب صراعات إقليمية أخرى أن هذه النتيجة تتحقق باستعصاء الحل العسكري، أو بإدراك أحد الطرفين أن المعركة لا تسير في صالحة، ووصوله إلى قناعة بقبول مبدأ حل الأزمة سلمياً، وفي الوقت عينه إدراك الطرف المقابل لأهمية تسوية متوازنة تنهي العنف المتبادل، دون ذلك، الخيار المتبقي هو الإبقاء على الخيار العسكري.
وللأسف، في الحالتين السورية والليبية ما زالت المراهنات تنصب على خيار الاستمرار في الحرب، وانعكس ذلك سلباً على المفاوضات والمباحثات في جنيف والمحطات المختلفة. ولا تعطي الحالة اليمنية، حتى اللحظة، قوة مثال مختلفة، إذ فشلت جهود تمديد الهدنة الإنسانية، واستبقت أطراف الصراع انعقاد مباحثات جنيف بشروط مسبقة، لتحقيق قائمة طويلة من المطالب يفترض أن تناقش على طاولة البحث، والاتفاق على آليات لتنفيذها، استناداً إلى مرجعية "المبادرة الخليجية" و"مخرجات الحوار الوطني" وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216، كسلة متكاملة، وصولاً إلى حل سياسي تشاوري يعالج الأزمة من جذورها وينهيها إلى غير رجعة.
إن مواصلة الحرب ووضع شروط مسبقة غير ممكنة التنفيذ واقعياً، يدفع للاعتقاد بأن مباحثات جنيف بشأن اليمن ستكون في جولتها الأولى محاولات جس نبض، بينما عملية عض الأصابع في ميادين القتال على قدم وساق، لكنهم سيصلون عاجلاً أم آجلاً إلى قناعة بأنه لا مناص من العودة إلى مسار إرساء مقومات استكمال الانتقال السياسي بتوافق وطني يمني، وما نتمناه هو أن يقلل اليمنيون من فاتورة الضحايا والخسائر، وأن يختصروا معاناتهم، بالإسراع في التسوية السياسية.