لم يكن مفاجئاً سيطرة تنظيم (داعش) على مدينة سرت الليبية، فالتنظيم يعمل منذ شهور طويلة على حشد وتركيز قواه في المدينة، ويخوض معارك مع قوات (فجر ليبيا)، الموالية لـ"للمؤتمر الوطني العام" في طرابلس، استطاع من خلالها أن يقضم المدينة تدريجياً، ليفرض نفسه كرقم صعب في ميزان الصراع الليبي- الليبي، نظراً لما تتمتع به سرت من أهمية إستراتيجية، كونها الميناء الرئيسي لتصدير النفط بالبلاد، وتحيط بها قواعد عسكرية مهمة، أصبحت كلها بيد (داعش).
وبخطوته هذه وجه (داعش) صفعة قوية للتحالف الدولي، أو كما يقال في المثل العربي "رماه بثالثة الأثافي"، فقد سبق أن سيطر على مدينة تدمر السورية الأسبوع الماضي، وقبلها بأسبوع تقريباً سيطر على مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار العراقية، مثبتاً أنه مازال يمتلك قوة دفع كبيرة، تمكنه من القتال على جبهات متعددة، في عمليات كرٍّ وفرِّ تؤكد وجود ثغرات كبيرة في إستراتيجية التحالف الدولي، وقدرة تنظيم (داعش) على توظيف التناقضات داخل الحلف وتردده في العمليات العسكرية الجوية ضد قواعد التنظيم، واستغلال المعادلتين الداخليتين في العراق وسورية، حيث بات الصراع يستنزف الجميع، بالإضافة إلى عدم إظهار القوات العراقية والسورية ما يكفي من كفاءة وإمكانيات وجهوزية قتالية في مواجهة مقاتلي التنظيم.
المشترك في الانجازات الثلاثة، التي حققها تنظيم (داعش) بالسيطرة على الرمادي وتدمر وسرت، أن (داعش) كان يخطط لها وينفذها تحت أنظار "التحالف الدولي"، الأمر الذي دفع خبراء ومراقبين عسكريين إلى التشكيك بحقيقة سياسات ونوايا واشنطن، من موقعها كقائدة للتحالف الدولي، ورسم صورة سوداوية لمستقبل الحرب ضد (داعش) خلال الشهور المتبقية على وجود الرئيس أوباما في البيت الأبيض، اختصرها نائب المدير والقائم بأعمال مدير جهاز المخابرات المركزية "سي آي إيه" الأسبق جون ماكلافلين بالقول: "إن التنظيم شبه واثق من بقائه خلال رئاسة أوباما. إذا استمر التنظيم في حكم تلك المنطقة، المقصود نصف مساحة سورية والعراق، فسيكون من الصعوبة، في رأيي، ألا نسمي ذلك انتصارًا..".
ويعلل ماكلافلين ما ذهب إليه بأربعة نقاط رئيسية، في مقالة نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" (اللندنية) بالتعاون مع صحيفة (واشنطن بوست) الأميركية: بقاء سيطرة (داعش) يعني فشل قوات التحالف في حشد القوة البرية الكافية لمواجهته، مع تقدير مفروغ منه أن القصف الجوي وحده لن يكون كافيًا، وحتى الآن لا يعد الجيش العراقي "أهلاً لهذه المهمة"، على حد وصف ماكلافلين. استمرار سيطرة (داعش) على محافظة الأنبار، ومركزها الرمادي، سيشجعه على التمدد نحو العاصمة بغداد، باختراقات لخطوط دفاعها، دون أن يضطر للسيطرة على كامل أحياء العاصمة. وفي حال لم يتراجع تمدد (داعش) فإن ذلك سيعدُّ مؤشراً على أن العراق يواصل طريقه نحو الانقسام. والنقطة الرابعة، وفقاً لما يراه ماكلافلين، تتعلق بالتحفظات الإقليمية الكبيرة على الدور الذي يمكن لإيران أن تؤديه في مواجهة (داعش)، لاسيما من جانب دول مجلس تعاون الخليج العربي، وتأثير ذلك على الموقف الأميركي، وبالتالي محدودة فرص تدخل إيراني واسع وحاسم.
والنقاط الأربعة من حيث الجوهر تنطبق على مواجهة (داعش) في سورية، مع مراعاة الاختلافات بحكم طبيعة الأزمة في البلدين، وبدرجة أقل يمكن تطبيقها جزئياً على الحالة الليبية القابلة لتطورات سلبية عاصفة، إذا لم توضع تسوية سياسية مبدئية وشاملة للأزمة في البلاد، في أسرع وقت ممكن.
الكاتب الأميركي المعروف، إيلي ليك، كان أكثر جرأة من ماكلافلين في نقد مواقف إدارة أوباما إزاء الحرب ضد تنظيم (داعش)، باتهامه لواشنطن بأنها سمحت للتنظيم بالاستيلاء على الرمادي، لاعتمادها قواعد مشاركة محدودة في المعارك، تحكم الهجمات الجوية الأميركية، كانت من بين أسباب الانتكاسة في معركة الرمادي، يضاف إليها انتقادات لعمليات التدريب والتسليح الأميركية للجيش العراقي، وتركيبته وعقيدته القتالية.
ملاحظات في السياق ذاته توجه إلى عمليات التحالف الدولي ضد (داعش) في سورية، وغياب أي تحرك دولي لمواجهة تمدد التنظيم في ليبيا، تكشف لنا أن هذا التنظيم الإرهابي يستمد قوته من اللعب على تناقضات أعدائه وترددهم، وهو بصدد توسيع دائرة أهدافه، بمد يد إرهابه مؤخراً إلى داخل المملكة السعودية، ومرشح للتمدد أكثر إذا بقيت المعادلات الراهنة على صعيد الأزمات في العراق وسورية وليبيا، وتداعياتها الإقليمية والدولية.