تنفست تل أبيب الصعداء بتحول الأزمات في سورية والعراق وبلدان عربية أخرى إلى صراعات دموية، بددت المخاوف الإسرائيلية من تأثيرات رياح الحراك الشعبي العربي المعارض على المدى الإستراتيجي، وبعد سنوات على اشتعالها أوصلت الحرب جميع الأطراف المنخرطة فيها إلى حالة من الإعياء، ربما باستثناء تنظيم (داعش) و"جبهة النصرة"، حيث مازال مقاتلو (داعش) يحققون انجازات على الأرض في سورية والعراق، باستيلائهم مؤخراً على مدينتي تدمر والرمادي، بينما حقق مقاتلو (النصرة) تقدماً مهماً بالسيطرة على معظم أراضي محافظة إدلب السورية ذات الأهمية الإستراتيجية.
ويرى خبراء عسكريون إسرائيليون أن إسرائيل هي الطرف الأكثر استفادة من إغراق الجيشين العراقي والسوري، بالإضافة إلى "حزب الله" اللبناني، في حرب استنزاف منهِكة، من الصعب التنبؤ بنهاية قريبة لها، وهذا يثير مشاعر ارتياح في تل أبيب التي من مصلحتها ليس فقط استمرار الحرب، إنما امتدادها وتوسعها لتشمل المنطقة برمتها، بتحويل الصراعات في سورية والعراق واليمن وليبيا والسودان إلى ثقوب سوداء، تبتلع كل مقدرات الدول العربية.
وفق هذا التصور لا تستبعد الدوائر الإسرائيلية أن تنجز في صالح إسرائيل، دون عناء منها، نسخة إسرائيلية من نظرية عصابة (المحافظين الجدد) التي أسمتها وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كونداليزا رايس، بـ(الفوضى الخلاقة)، وهدفها إثارة القلاقل والصراعات في الدول العربية ضمن قوس يشمل العديد من البلدان، من القرن الأفريقي مروراً بتركيا وإيران وصولاً إلى آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان.
وإذا كانت إدارة بوش الابن أجهدت نفسها عام 2003 بالتخطيط لـ" مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وجندت قدراتها دون جدوى في محاولة لفرضه وتمريره، فإن إسرائيل يمكنها أن تكسب النقاط وتحسبها وهي في موقع المراقب لمجريات الصراع في سورية والعراق، وفي الإطار الأوسع للحرب الدائرة في اليمن وليبيا، والبناء على تلك المجريات للدفع قدماً بنسخة إسرائيلية من إشاعة الفوضى، أو ما اصطلح (المحافظون الجدد) تسميته زوراً وبهتاناً بـ(الفوضى الخلاقة)، من غير أن تبذل تل أبيب أي جهد يذكر، في المرحلة الحالية والمرحلة التي ستليها.
وفقاً لهذا السيناريو، يؤكد باحثون ومحللون سياسيون وخبراء عسكريون إسرائيليون أن إسرائيل تستفيد من الحرب الأهلية في سورية والعراق، حيث من شأن نتائجها، بصرف النظر عن الطرف الذي سيكسب جولتها النهائية، أن تغير نسق ميزان القوى في المنطقة، بما يقلل بدرجة كبيرة احتمال مواجهة إسرائيل لتهديدات عسكرية، وستسود حالة من "اللا سلم والا حرب" لفترة طويلة، يمكن لإسرائيل خلالها أن تدرس أي احتمالات مستقبلية، منها على سبيل المثال للحصر، وفقاً للمحلل السياسي الإسرائيلي يوسي ميلمان، وضع سيناريو للرد على (داعش) و(النصرة) إذا استطاعت الجماعتان الحفاظ على وجودها بالقرب من الحدود مع الجولان السوري المحتل، وظهرت نوايا من جانبهما بمهاجمة أهداف إسرائيلية، وهذا مستبعد في المدى المنظور على الأقل.
ولا يتردد باحثون إسرائيليون في التأكيد على أن من مصلحة إسرائيل "انهيار منطقة الشرق الأوسط برمتها"، لخلط الأوراق جذرياً، بتحويل الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي إلى صراع ثانوي، وتعميم صراعات طائفية ومذهبية وإثنية، عمودها الفقري تفجير صراع إيراني- عربي، تنخرط فيه دول الخليج العربي وسورية والعراق ولبنان، وصراع عربي- كردي يرجح كفة تقسيم العراق وسورية. وبالتالي إنتاج نسق جديد لميزان القوى في المنطقة، تكون فيه إسرائيل قوة متفردة على حساب استنزاف الآخرين لقواهم.
لكن من المبكر أن تعتقد إسرائيل بأن ما تريده قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فالفوضى الشاملة إذا وقعت في المنطقة لن تكون تل أبيب في مأمن من رياحها، واعتبارها لنفسها بأنها الرابح الأكبر، حتى الآن، من الصراعات الدموية في المنطقة يحمل مغالطة كبرى، إذا ما تم مده أوتوماتكياً إلى المستقبل قبل أن تتضح المعادلات النهائية للصراعات، فحالة الفوضى ستجلب معها قوى جديدة لها قواعد لعب خاصة لم تعهدها المنطقة من قبل.