لا تكاد تهدأ تداعيات جريمة عنصرية في الولايات المتحدة الأميركية حتى ترتكب جريمة جديدة، فخلال العاميين الماضين تتالت مجموعة من الجرائم العنصرية، في العديد من الولايات الأميركية، ضحاياها مواطنون أميركيون من أصول أفريقية، وارتكبت على أيدي رجال شرطة، برأت المحاكم الكثيرين منهم، الأمر الذي وضع إشارات استفهام حول عقيدة الشرطة الأميركية، وانعكاسها على المهام الملقاة على عاتقها، ومدى حيادية ونزاهة القضاء الأميركي، الذي نظر إليه في غير قضية من قضايا، تصنف بأنها جرائم بدوافع عنصرية، كتواطئ مع الجناة، خاصة عندما يتهم بها رجال شرطة.
من تلك القضايا، تبرئة محكمة هيوستن العام الماضي لضابط شرطة يدعى جوفيتنيو كاسترو، رغم ثبوت واقعة إطلاقه النار على شاب أسود يدعى جوردان بيكر، وأرداه قتيلاً مع أنه لم بيكر يكن يشكِّل خطراً على حياة الضابط. وقبلها برأت محكمة فيرغستون شرطياً آخر قتل شاباً أسود، ثبت أن الشاب كان أعزلاً، كما رفضت محكمة أميركية أخرى توجيه اتهام إلى شرطي ثالث تسبب في مقتل رجل أسود أيضاً، علماً بأن رجال الشرطة المتهمون كلهم من البيض.
وأثارت القضايا الثلاثة، إلى جانب قضايا أخرى، سخطاً واسعاً في أوساط المواطنين الأميركيين من أصول أفريقية، والأقليات العرقية على نحو عام، وخرجت مظاهرات حاشدة ونشبت صدامات، استدعت تعليقات مستويات قيادية أميركية كبرى، في مقدمتها الرئيس الأميركي باراك أوباما، لكن سلسلة الجرائم العنصرية تواصلت، ولم تعمل الجهات المعنية على ضبط تصرفات وسلوك رجال الشرطة في تعاملهم مع أبناء الأقليات العرقية، خاصة من أصول أفريقية، ولم يوقع القضاء العقاب العادل على مرتكبي الجرائم، بل قام بتشجيع تلك النوعية من الجرائم، من خلال إحكام البراءة أو الامتناع عن توجيه تهم، إلى أن اتخذت الجرائم العنصرية بعداً أخطر، في الجريمة التي ارتكبها شاب أبيض ذو ميول عنصرية في مدينة تشارلستون- كارولينا الجنوبية، الأسبوع الماضي، بالهجوم على كنيسة لأميركيين من أصل أفريقي، أسفرت عن مقتل تسعة منهم وجرح آخرين.
حاكمة الولاية، نيكي هيلي، رأت أن خوض حرب ضد علم الكونفيدرالية كفيل بتهدئة خواطر المواطنين من أصول أفريقية، فهذا العلم يرمز إلى الحرب الأهلية الأميركية، ويتعداها في رمزيته إلى العبودية، ولطالما استخدم كرمز للتفرقة العنصرية بين الأعراق في الولايات المتحدة الأميركية. الحاكمة هيلي تتزعم حملة لإنزال اعلم الكونفيدرالية عن مبنى برلمان الولاية والمباني الحكومية، ووضعه في المتحف، إلا أن إنزال العلم لن يلغي رمزيته لدى التيار العنصري في ولاية كارولينا الجنوبية، والأهم من ذلك لن يحد من نشاط العنصريين وجرائمهم، لأنهم يعتقدون على نطاق واسع بأن فرصهم بالإفلات من العقاب كبيرة.
مرشحون للرئاسة الأميركية راحوا يزاحمون الحاكمة هيلي في حملتها، باعتبار أن إزالة العلم مقدمة لـ"لمضي قدماً وتخطي الألم"، على حد وصف المرشح الرئاسي السناتور ليندسي غراهام، لكن ماذا عن العنصرية الراسخة في أوساط البيض داخل المجتمع الأميركي؟ لاسيما في الجنوب الأميركي بحكم موروث تاريخي يعود إلى الحرب الأهلية الأميركية وما قبلها.
الملاحظ هنا أن الحاكمة هيلي والسيناتور غراهام، على حد سواء، يجدفان بعيداً عن المشكلة الحقيقية وكيفية معالجتها، فالدعوة إلى إنزال علم الكونفيدرالية، باعتباره رمزاً من رموز العنصرية الراسخة، تدعو للتساؤل: كيف تسنى لهذا الرمز أن يبقى مرفوعاً أمام مبنى البرلمان والمباني الحكومية عشرات السنيين؟ ومع إقرار المسؤولين الأميركيين بأنه استخدم كرمز للعنصرية والعبودية أليس استمرار رفعه حتى اللحظة جريمة متواصلة، يفترض أن تحاسب عليها قوانين الولايات المتحدة، باعتبار أن رفع أي رموز عنصرية تعد جريمة من جرائم الحض على الكراهية في القانون الدولي.
وما يهرب منه المسؤولون الأميركيون يتمثل في أن مواجهة العنصرية في الولايات المتحدة تتطلب خطوات أكبر من إزالة علم الكونفيدرالية العنصري، تبدأ بمحاسبة من يرتكبون جرائم عنصرية، حتى لا يبقى سائداً لدى العنصريين اعتقاد بإمكانية الإفلات من العقاب. ولن تكون هناك معالجات سليمة وصحيحة لهذه الظاهرة المقيتة إلا من خلال ثقافة مجتمعية جديدة، ومنظومة سياسية وحزبية مختلفة، اعتراف الولايات المتحدة بأنها تفتقر لها سيسهم في الخروج ببرامج لتخليصها من الانقسامات العرقية والكراهية والعنصرية.