وأضاف بكري أن هذه المعلومات والأسرار نُشرت على صفحات بحث خاص به في المؤتمر الدولي الذي تم تنظيمه عن طريق كلية الآثار بجامعة القاهرة تحت عنوان "الجيزة عبر العصور".
واليكم التفاصيل الكاملة والأسرار التي نشرت عن هذا الموضوع:
تعرف الروس على مصر القديمة مع دخول المسيحية إلى أرضهم، حيث وردت كثير من المعلومات التاريخية في الكتاب المقدس ليس فقط عن فلسطين ولكن حول الشعوب التي كانت على صلة بإسرائيل واليهود ومن بينهم المصريين.
فعلى سبيل المثال ذُكرت الحروب التي كانت قائمة بين فراعنة مصر في العصر المتأخر والملوك البابليين على منطقتي سوريا وفلسطين، ثم بدأت بعد ذلك زيارات الحجاج الروس إلى الأراضي المقدسة، الذين كانوا دائماً ما يعرجون إلى مصر وهم في طريقهم للصلاة أمام قبر المسيح في القدس. ثم جاء الرحالة الذين كانوا ينتمون إلى فئات إجتماعية ومهنية مختلفة، بل كانت أهداف رحلاتهم مختلفة، فمنهم الدبلوماسيين والتجار وغيرهم.
وصول الحاج الروسي "أجريفيني" إلى مصر:
وصل في عام 1370 م تقريباً إلى مصر الحاج الروسي "أجريفيني" خلال رحلته إلى الشرق الأوسط وكان أصلا من مدينة "سمولينسك". ذكر لنا هذا الحاج معلومات قيمة عن المسافات الفاصلة بين المدن المصرية المختلفة التي صادفته في رحلته هذه. وتمكننا مثل هذه المعلومات من معرفة الوقت الذي استغرقه للوصول إلى مصر بل والمسافة ما بين المدن داخل مصر نفسها، مثلا بين مدينة القاهرة والاسكندرية. حيث يذكر("من القدس إلى غزة ثلاثة أيام، من غزة إلى مصر إثنا عشر يوما، من مصر إلى الاسكندرية ستة أيام……"). والمقصود بمصر هنا القاهرة.
زيارة الحاج الروسي "فاراسانوفي" لمصر:
ثم في ستينيات القرن الخامس عشر زار مصر حاج روسي آخر وهو "فاراسانوفي"، الذي كان أصلا من كييف أو من منطقة بالقرب منها. وكانت هذه زيارته الثانية إلى الأرض المقدسة (1461-1462)، حيث قام بزيارته الاولى تقريباً عام 1455 ولكنه لم يصل إلى مصر خلالها، واقتصر على زيارة القدس و فلسطين. و يعتبر فارسانوفي أول حاج روسي أعطى وصفاً دقيقاً لزيارته المقدسة بما فيها رحلته عبر الاراضي المصرية.
وبدأ فارسانوفي رحلته من مدينة كييف عبر الأراضي الروسية حتى وصل إلى القسطنطينية ثم مر بجزر كريت ورودوس وقبرص ومنهم إلى دمياط، ثم إتجه جنوباً من دمياط عن طريق النيل إلى مدينة مصر، أي القاهرة. وقضى فارسانوفي في مدينة القاهرة ستة أسابيع مما أتاح له- بلا شك — الفرصة أن يتجول في أنحاءها المختلفة، إلا أن ملاحظاته التي تركها لنا تعتبر مقتضبة ومختصرة.
ولكن وصفه المختصر لمدينة القاهرة ونهر النيل يعتبر الأول في الأدب الروسي: "تقف مدينة مصر (القاهرة) شامخة على مكان منبسط في سفح الجبل، وبها يجري نهر من الجنة — نهر النيل ذو المجرى الذهبي- وهناك إسم آخر لهذا النهر وهو جيون. عرض المدينة ميلان أما طولها فيمثل ستة أميال".
من الواضح أن نهر النيل أدهش هذا الحاج الروسي مما جعله يعود إليه في وصفه مرة أخرى فيقول "يجري نهر النيل ذو المجرى الذهبي من جنوب البلاد إلى شمالها حتى يصل إلى البحر الابيض (المتوسط) ويصب فيه بالقرب من مدينة دمياط".
زيارة الأمير الروسي "ميخائيل جيرييف" للقاهرة:
في عام 1522 ميلادياً زار مصر أمين مخازن الأمير الروسي "ميخائيل جيرييف". بعد وصوله إلى مدينة القاهرة قضى بها أربعين يوماً ولكنه لم يترك لنا أية ملاحظات مكتوبة، و إنما لدينا بعض القصص التى رواها بنفسه ولكنها تخص وصف مدينة القاهرة التي رأها آنذاك.
زيارة التاجر الروسي "فاسيلي بوزنياكوف":
أما الرحلة التالية التي نعرف عنها القليل عن طريق ما تبقى من ملاحظات مدونة فهي مرتبطة بإسم التاجر الروسي "فاسيلي بوزنياكوف". كان هذا التاجر من مدينة "سمولينسك" اشتغل هو وإبنه بالتجارة في مدينة موسكو. ثم حدث في عام 1558 ميلادياً طبقا لقرار "أيفان جروزني" أن تم إرسال فاسيلي وإبنه ضمن البعثة التي أرسلها هذا الامير إلى الشرق الاوسط كي "يسجلوا عادات تلك الدول".
رحلت البعثة عن موسكو في أكتوبر 1558 ميلادياً. ووصلت البعثة إلى القسطنطينية بعد أن قطعت طريقاً طويلاً ومجهداً، ثم إتجهت بعد ذلك إلى الاسكندرية. مر تقريباً العام على البعثة حتى وصلت إلى القاهرة في أكتوبر 1559ميلادياً، حيث قضت بها أربعة أيام. لقد كانت هذه الفترة بسيطة كي يتعرف فاسيلي بوزنياكوف على معالم القاهرة، إلا أنه في طريق العودة قضي بمدينة الاسكندرية اسبوعاً كاملاً ومن هناك إتجه هو وأفراد البعثة إلى سيناء. ثم عادت البعثة في ديسمبر 1559ميلادياً إلى الاسكندرية مرة أخرى ومن هناك عادوا إلى أرض الوطن.
على الرغم من أن هذ البعثة أقامت بمصر وقتاً قليلاً إلا أن فاسيلي بوزنياكوف ترك لنا وصفاً للقاهرة، التي كانت تمر بفترة من التدهور في ذلك الوقت: "مصر العتيقة (القاهرة العتيقة) الآن فارغة، يعيش بها القليل من المصريين والغجر، ولا يعيش بها الاتراك والمسيحيون. كانت المدينة مبنية من الاحجار ولكنها تحطمت، ما عدا بوابة واحدة ظلت كاملة سليمة….". بالاضافة إلى ذلك وصف لنا هذا التاجر الصحراء التي كانت تحيط بمصر مقارناً إياها بصحاري روسيا: "هذه ليست مثل صحارينا، حيث لا توجد بها غابات، ولا عشب، ولا ناس ولا ماء. تمشي بها أيام مطولة ولا تجد سوى الرمال والأحجار".
زيارة التاجر الروسي "فاسيلي ياكوفليف جاجارا":
أول من زار مصر بعد انقضاء فترة الفوضى التي عمت الاراضي الروسية كان التاجر "فاسيلي ياكوفليف جاجارا". كان هذا التاجر يعيش في مدينة "قازان" وكان يشتغل بالتجارة مع بلاد الشرق وبدأ زيارته للحج في صيف عام 1634ميلادياً. وخلافاً عن من سبقوه إتخذ طريقاً مغايراً لهم حيث مر في طريقه بتبيليسي، يريفان، أردغان، كاري، حلب، دمشق، القدس. ووصل جاجارا إلى مصر في نهاية ديسمبر سنة 1635 ميلادياً، حيث قضى بها ثلاثة أشهر وأسبوعين.
وعاد جاجارا إلى روسيا عن طريق بلغاريا ومالدافيا. ومن الواضح أنه قد وصل إلى موسكو في شهر مايو من سنة 1637ميلادياً. بعد وصوله لموسكو منحه الملك ميخايل فيودوروفيش اللقب الشرفي "ضيف موسكو".
تتميز مذكرات رحلة جاجارا عن من سبقوه بميزتين مهمتين: فكان الجزء الخاص بوصف مصر فيها أكبر من الجزء الذي يتحدث عن وصف الأراضي المقدسة وبقية بلاد الشرق الاوسط، هذا بالاضافة إلى أنه قليلاً ما كان يروي بها قصص الكتاب المقدس.
ووصف جاجارا الاهرامات بصورة أكثر تفصيلاً من سلفه فارسانوفي، حيث زارها وكتب عنها: "في مصر، خلف نهر النيل، الذي يدعى باليونانية جيون، بُنيت مساكن مخيفة عظيمة، مثل الجبال الشامخة، تبعد عن النيل بستة أميال. تقف شامخة على الجبل، مبنية بقاعدة مربعة وذات قمم كالابراج…". وكُتبت هذه العبارة الأخيرة في نسخة أخرى من هذه المذكرات على النحو التالي "قممها كالخيام".
من الواضح أن جاجارا استطاع الوصول إلى مناطق أبعد ممن سبقوه، حيث أنه قد وصل إلى بحيرة الفيوم "بحيرة قارون". ورأى جاجارا هناك منظراً مهيبا لمومياوات بجبانة كانت قد أزاح الريح عنها الرمال: "بالقرب من تلك البحيرة تخرج من الارض عظام بشرية، رؤوس، أيدي، أرجل وضلوع تتحرك كما لو كانت حية، والرؤوس كان عليها شعر وكانت ظاهرة على سطح الارض".
جذبت طبيعة أرض مصر بنباتاتها وحيواناتها جاجارا فسجل لنا مثل سابقيه إعجابه بنهر النيل أو نهر جيون، الذي قارنه بنهر الفولجا، النهر الروسي العظيم فوصفه وصفاً رائعاً. كما وصف لنا بحور الرمال (الصحراوات) صعبة المنال التي تحيط بمصر. كما أعطى جاجارا وصفا تفصيليا "للوحش الضاري" أي التمساح الذي ذكره فارسانوفي بصورة مقتضبة دون إعطاء أي وصف له.
ويكتب جاجارا: "يوجد في نهر جيون (نهر النيل) وحش يسمى بالتمساح، يعيش في هذا النهر في الماء، رأسه مثل رأس القرموط، أما رجليه مثل رجلي الانسان، وذيله مثل القرموط، مظهره مثل الأفعى، أذا تمكن من الانسان يفتك به حتى الموت. وفم هذا الوحش مثل فم الضفدعة وجلده مليئ يالقشر مثل السمك. حجم هذا التمساح يصل إلى ثلاثة ساجين"
رحلة "أرسيني سوخانوف" إلى مصر:
بعد مرور خمسة عشر عاماً على رحلة "فاسيلي جاجارا" إلى مصر وخلال عهد الملك "اليكسي ميخايلوفيتش" بدأ رجل الدين والدولة الشهير آنذاك "أرسيني سوخانوف" رحلته الطويلة إلى الشرق الاوسط. تحرك سوخانوف من روسيا في فبراير عام 1651 ميلادياً وكان غرض رحلته جمع معلومات عن وضع الكنيسة اليونانية في الشرق. إلا أن سوخانوف كونه رجل محب للمعرفة قد خرج عن إطار هذه المهمة المنوطة به، وأكبر دليل على هذا كتابه "العابد" الذي إحتوى على الكثير من ملاحظاته حول المدن التي زارها والمعالم التاريخية التي رأها، وعن أخلاق وعادات وتقاليد الشعوب والظروف الطبيعية لكل بلد.
وخصص سوخانوف قسماً كبيراً لمصر في عمله البديع "العابد". وصل سوخانوف إلى الاسكندرية في منتصف أغسطس سنة 1651ميلادياً، وأدهشته المدينة بجمال ما تبقى من عظمتها الماضية وما كانت عليه انذاك: "الاسكندرية — مدينة عجيبة البناء، لا يوجد مثلها مدينة أخرى. كانت الاسكندرية مزينة ولكنها الآن فارغة، قليل من السكان يعيشون حول المدينة، ومنتصف المدينة فارغ، والمساكن مهدمة".
يتوقف سوخانوف عند مسلتي الاسكندرية ويصفهما وصفاً دقيقاً: "في مدينة الاسكندرية تقف الكثير من الاعمدة الحجرية من بينها ما هو مرتفع ومتوسط الارتفاع وأعمدة صغيرة من المرمر، كلها مصنوعة من كتلة حجرية واحدة و دائرية الشكل. يخرج من البحر الابيض (المتوسط) خليج عظيم ويصل إلى جدران المدينة، و للمدينة بوابة عظيمة تنظر إلى البحر.
من الجدير بالذكر أنه إذا كان فارسانوفي أول من ذكر الاهرامات من الروس وفاسيلي جاجارا أول من ذكر مسلة هيليوبوليس (المطرية)، فإن أرسيني سوخانوف يرجع له الفضل في ذكر مسلتي كليوباترا وعامود بومباي.
رحلة "جريجوريفيتش- بارسكي":
أكمل "جريجوريفيتش- بارسكي" الطريق الذي بدأه الرحالة الروس في زيارة ووصف مصر في الفترة من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر الميلادي، لكنه كان يعيش في عصر يختلف عمن سبقوه حيث كان معاصراً لفترة حكم بطرس الأول وبداية زهاء الامبراطورية الروسية.
بدأ بارسكي رحلته أولاً إلى الغرب فزار فيينا، فينيسيا، روما، نابولي، ثم استطاع أن يستقل سفينة من فيينا إلى اليونان عام 1725ميلادياً ومنها وصل إلى الشرق الأوسط. ظل هناك قرب الخمسة والعشرين عاماً واصفاً ومسجلاً لكل مشاهداته وانطباعاته بصورة دقيقة. عاد بارسكي إلى كييف عام 1747 ميلادياً ثم وافته المنية بعد وصوله بفترة قصيرة. نُشرت مذكرات بارسكي في كتاب "السفر إلى الأماكن المقدسة" عام 1778ميلادياً، أي بعد واحد وثلاثين سنة من الإنتهاء من كتابتها في مدينة بطرس برج، وقد لاقت نجاحاً كبيراً في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي.
تتميز مذكرات بارسكي هذه بأنها تحتوي بداخلها على 137 رسماً توضيحياً قام بتنفيذها هو بنفسه مما ينم من ناحية أخرى عن موهبة فنان كانت داخل هذا الرجل.
هكذا وصل بارسكي إلى مصر عن طريق البحر عام 1727 ميلادياً وبعد قضاء فترة قصيرة بأبوقير ورشيد إتجه إلى القاهرة. أول مدينة بمصر زارها بارسكي كانت مدينة رشيد التي وصفها وصفا رائعاً ووصف سكانها متعددي اللغات والأعمال والحرف. أُعجب بارسكي بنخيل البلح الذي يتميز بالإخضرار طوال السنة ويستخدم كمواد للبناء وفي صنع أدوات الاستعمال المنزلي بجانب كونه طعاماً.
إتجه بارسكي بعد ذلك إلى القاهرة التي قضى بها أكثر من ثمانية أشهر كي "يتأمل جمال وعظمة وبناء المدينة" وكذلك "عادات الشعب المصري". من مذكرات بارسكي نستطيع أن نعرف الكثير عن مدينة القاهرة: معالمها، آثارها، شوارعها، أسواقها ونهر النيل.
كان فاسيلي جريجوريفيتش- بارسكي أخر الرحالة الروس خلال الفترة من القرن الرابع عشر حتى القن الثامن عشر الميلادي، الذين تركوا لنا مذكرات عن مصر أسهمت في تعريف القارئ الروسي أنذاك بمصر القديمة والمعاصرة.
هكذا كانت روايات وحكايات ومذكرات الروس الذين زاروا مصر من حجاج وتجار ومبعوثين حكوميين ورحالة عن أرض مصر من أهم المصادر التاريخية الروسية التي أثرت معارف الشعب الروسي عن مصر القديمة وأشبعت رغبة الروس في التعرف على حضارة وادي النيل العظيمة.
وقد نتج عن هذه الرغبة والاهتمام ولع شديد بتقليد الانماط المصرية في الفن الروسي واهتمام بالآثار المصرية القديمة في بداية القرن التاسع عشر ثم نشأة علم المصريات خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.