التطورات الدراماتيكية في الموقف الرسمي التركي، التي أعقبت التفجير الانتحاري في بلدة سروج الواقعة جنوب تركيا وذات الأغلبية الكردية، خلقت واقعاً جديداً أمام التحالف الدولي للحرب على تنظيم (داعش) في سورية والعراق، بانضمام الجيش التركي إلى عمليات التحالف، من خلال شن مقاتلات "إف16" غارات جوية مكثفة على مواقع (داعش) في الريف الشمالي الشرقي لريف حلب، وهذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا تقل أهمية في ميزان الحرب على (داعش)، السماح لقوات التحالف، وقوات دول صديقة ليست في عضويته، باستخدام قاعدة "انجرليك" الجوية كمنطلق لعمليات تنفذ ضد قواعد (داعش) في سورية والعراق، بالإضافة إلى تمركز طائرات مقاتلة، من دول التحالف والدول الصديقة، في قواعد عسكرية أخرى على الأراضي التركية واستخدامها.
مما لا شك فيه، إن دخول تركيا على خط الحرب ضد تنظيم (داعش) تحول نوعي في مسارها، وإذا ما تأكد أن الجيش التركي سيواصل اندفاعه قد تتمخض عنه في الأسابيع القليلة القادمة خارطة جديدة في مناطق شمال وشمال شرق سورية، التي يسيطر مقاتلو (داعش) على مساحات واسعة منها، إلا أن إضفاء تركيا طابعاً مزدوجا على العمليات العسكرية التي نفذتها، باستهداف قواعد لتنظيم (داعش) في سورية، بالقرب من الحدود التركية، بالتزامن مع ضرب قواعد ومراكز تابعة لـ"حزب العمال الكردستاني" التركي في كردستان العراق، ينطوي على عملية خلط أوراق، لن تكون مريحة بالنسبة للتحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، التي شدَّدت غير مرّة على أن الأولوية بالنسبة لها محاربة تنظيم (داعش).
كما أن عملية خلط الأوراق هذه تخلق إشكالية كبيرة مع الأكراد، سواء في شمال العراق أو في شمال وشمال شرق سورية، الذين ترى فيهم الولايات المتحدة أقرب وأفضل الحلفاء لها، على الأرض، في محاربة تنظيم (داعش)، وتقدم لهم كل أشكال الدعم العسكري والمادي. وستكون لها تداعيات خطيرة في الداخل التركي، في مقدمتها تقويض العملية السياسية التي بدأت مع "حزب العمال الكردستاني" عام 2013، وشهدت فتوراً وتقلبات كثيرة خلال العامين الماضي والجاري.
لقد وجدت أنقرة فرصة سانحة أمامها كي تدخل عسكرياً على خط الأزمة في سورية، كرد مباشر على العملية الانتحارية في بلدة سروج، التي اتهم تنظيم (داعش) بالمسؤولية عنها، وكان للعمليتين اللتين تبناهما "حزب العمال الكردستاني" في جنوب تركيا، انتقاماً لضحايا مجزرة سروج، دوراً حاسماً في بلورة الموقف الرسمي التركي وشكل التحرك، الأولى أدت إلى مقتل ضابطي شرطة في هجوم استهدفهما بمدينة شانلي أورفا- جنوب شرق تركيا قرب الحدود السورية، والثانية قتل فيها شرطي مرور وجرح فيها آخر في مدينة ديار بكر. وبالتالي وجدت الحكومة التركية وقيادة الجيش التركي نفسها أمام وقائع متداخلة تخدم سلة حساباتها.
إذ يمكنها أن تغطي على تحرك عسكري بطابع مزدوج، تستطيع أنقرة أن توجه من خلاله ضربة لتنظيم (داعش) وفي الوقت عينه ضربة لمقاتلي "حزب العمال الكردستاني"، ناهيك عن حملات الاعتقال الواسعة على الأراضي التركية، التي شملت المئات ممن يتهمون بالانتماء إلى (داعش) أو "حزب العمال الكردستاني" و"جبهة التحرير الشعبي الثوري"، والغالبية الكبيرة من المعتقلين ينتمون إلى "حزب العمال" و"جبهة التحرير"، وبذلك ساوت السلطات التركية بين (داعش) و"العمال الكردستاني" واليساريين الماركسيين —المتشددين- في تركيا ممثلين بـ"جبهة التحرير الشعبي الثوري"، وهي بذلك تأمل في أن تضرب ثلاثة أهداف في ضربة واحدة.
إلا أن تحقيق الأهداف الثلاثة، إذا ما مُدَّت إلى نهاياتها ستطال "حزب الاتحاد الديمقراطي"، الذي يعد الجناح السوري لـ"حزب العمال الكردستاني" التركي، وهو ما سيؤدي إلى تغيير المعادلة على الأرض في مناطق شمال وشمال شرق سورية، حيث تتواجد مناطق النفوذ الرئيسية لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي"، بزعامة صالح مسلم، تأمل تركيا في الوصول إلى توافق مع التحالف كي تقوم قوات من المعارضة السورية المسلحة، التي تصنف تركياً غربياً بأنها معتدلة، بسد الفراغ الذي ستتركه (داعش) في المنطقة، لكنها مهمة ليست بالسهلة، إذا لم نقل إنها غير قابلة للتحقيق في المدة المنظور.
وفي التداعيات المحتملة أيضاً، يصعب التكهن بالمدى الذي سيذهب إليه التدخل العسكري التركي في سورية وشمال العراق، لكن في شكل عام يمكن القول أن من شأن التحرك العسكري التركي أن يغيِّر في الكثير من المعادلات وأن يقلبها، فهو إذا استمر في اندفاعه يفتح على نسق إقليمي ودولي جديد، في الحرب على (داعش)، وخارطة تركية داخلية مختلفة، بعودة الصراع مع "حزب العمال الكردستاني" إلى الواجهة، وتبعاً لذلك تأزم المسألة الكردية من جديد في تركيا، في وقت يرجح فيه تركيا أن تذهب إلى انتخابات تشريعية مبكرة، التحرك العسكري التركي ليس بعيداً عن كواليس الاستعداد لها.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)