يطالب العديد من الخبراء الأمنيين الإسرائيليين بتغير مفاهيم العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وتبني مفاهيم جديدة تنسجم مع المستجدات الإستراتيجية خلال الأعوام الأربعة الماضية، ويدعي أولئك الخبراء أن المستجدات الإستراتيجية حملت تغيرات جذرية وعميقة، أدت إلى إضعاف منظومة الدول العربية في الجوار الإسرائيلي، وبروز لاعبين جدد، على خلفية صراعات دينية وطائفية وعرقية- اثنية، تجعل من الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي صراعاً ثانوياً.
استناداً إلى الإدعاءات المذكورة، أفرزت المستجدات بيئة إستراتجية جديدة يميزها عدم وجود تهديدات عسكرية عربية تقليدية، كانت تمثلها الجيوش النظامية العربية فيما كان يصطلح على تسميته بـ(دول الطوق)، وتلاشت إمكانية بناء تحالفات عسكرية عربية نُظر إليها سابقاً باعتبارها (خطراً وجودياً)، حسب مصلحات الخطاب السياسي والدعاوي الإسرائيلي، على امتداد عشرات السنيين، يعقد خبراء إسرائيليون أنه بدأ يتراجع تدريجاً منذ عام 1973، وبات واقعاً يفرض نفسه بعد التوقيع على اتفاقية "كامب ديفيد" مع مصر، واتفاقية "وادي عربة" مع الأردن، و"اتفاق أوسلو" مع الجناح المسيطر في منظمة التحرير الفلسطينية، وباحتلال العراق ودخوله بعدها في مرحلة صراع داخلي، وانفجار الأوضاع في سورية، صار الحديث عن تهديد عسكري تقليدي بمثابة وهم تجاوزه الزمن.
في المقابل، على صعيد الحسابات الداخلية الإسرائيلية، لم تعد تسوية الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي أولوية بالنسبة لغالبية للنخب السياسية والشارع في إسرائيل، كما أن إدماج إسرائيل في المنطقة، بتطبيع علاقاتها مع البلدان العربية، لم يعد يطرح على بساط البحث إسرائيلياً كضمانة لمستقبل إسرائيل، ولذلك يلاحظ أن القضايا السياسية تحوّلت إلى أجندات ثانوية في البرنامج الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية في الانتخابات التشريعية، بينما تقدمت القضايا الاجتماعية والاقتصادية إلى رأس قائمة اهتمامات الناخب الإسرائيلي.
قد يكون ما سبق صحيحاً، لاسيما في قراءة للواقع الراهن، غير أنه يتم توظيفه بطريقة قاصرة، تقود إلى قراءات خاطئة على المدى المتوسط والبعيد، فالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي سيظل صراعاً جوهرياً في المنطقة، ولن يوضح حد له إلا بتسوية شاملة ومتوازنة تلبي حقوق وتطلعات الشعب الفلسطيني الثابتة والمشروعة، وانسحاب إسرائيل من الجولان السوري المحتل، وتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
وبروز (لاعبين لا دولتيين) في المنطقة، على شكل جماعات مسلحة خارج نطاق سيطرة الدولة، في سورية والعراق وبلدان عربية أخرى، ينسف المفاهيم السابقة التي قامت عليها العقيدة الأمنية الإسرائيلية، خلال أكثر من ستة عقود واجهت خلالها جيوشاً تقليدية عربية، وحتى المواجهة مع الفصائل الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني انطبقت عليها في شكل أو آخر قواعد الاشتباك، لارتباطها بحسابات ميزان القوى الإقليمي، والقرار السياسي الرسمي العربي في كل مرحلة من المراحل، وهي حسابات لا قيمة لها عند ما يسمون بـ(لاعبين لا دواتيين).
نسف المفاهيم السابقة يعني أن مفاهيم مثل الإنذار المبكر والحسم، وشن حرب خاطفة، ونقل المعركة إلى أرض الخصم، وإبعاد الجبهة الداخلية الإسرائيلية عن المواجهة.. الخ، تسقط بالضربة القاضية في الحروب مع (لاعبين لا دولتيين)، وتحييد إسرائيل في أجندة المجموعات المسلحة، في المرحلة الحالية، لا يجب أن يفهم منه نشوء واقع جديد قابل للاستمرار فترة طويلة. أو بمعنى آخر؛ إن الواقع الجديد من شأنه أن ينتج تآكل القوة الإسرائيلية، التي يفضل الخبراء الإسرائيليون الحديث عنها تحت مصطلح (قوة الردع الإسرائيلية).
أيضاً؛ من جملة أسباب نسف المفاهيم، والنتائج التي يقود إليها ذلك، لن يكون بمستطاع إسرائيل تحقيق أي مكاسب سياسية من وراء تورطها في حروب مع جماعات مسلحة، ومثل هكذا سيناريو يشكِّل هاجساً مرعباً للقيادات السياسية والعسكرية والأمنية، ولن تتخلص إسرائيل من هذا الهاجس إلا عندما يدرك الإسرائيليون أنه من الخطيئة وضع ملف تسوية الصراع مع الفلسطينيين على الرف، لأنه يستحيل تحويله إلى ثانوي.