كما كان متوقعاً حمل خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نقلة نوعية، في شكل معلن، بخصوص الموقف الجانب الفلسطيني من اتفاقيات أوسلو، التي وقعتها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل، بإعلان عباس أن الفلسطينيين لن يحترموا بعد الآن تلك الاتفاقيات، لأن إسرائيل لا تحترمها ولم تف بالتعهدات والالتزامات الواجبة عليها.
تغير الموقف الفلسطيني من الاتفاقيات، على ضوء ما آلت إليه العملية السياسية والتفاوضية، ليس جديداً، لكنها المرة الأولى التي يُعلن فيها في خطاب رسمي للرئيس الفلسطيني، وأمام أهم منبر دولي، وجوهر ما أراده عباس تحذير حكومة نتنياهو أولاً والإدارة الأميركية ثانيا من أن الإبقاء على حالة الجمود السياسي، بينما تحاول إسرائيل أن تجيّر لعبة الوقت في صالحها، لن يكون مقبولاً من الجانب الفلسطيني بعد الآن، حيث عانى الفلسطينيون، وما زالوا يعانون، من تداعيات المسار الهابط للمفاوضات، الذي اتخذ منحى سريع الانحدار منذ عام 1998، ووصل عملياً إلى حالة موت سريري في مفاوضات "كامب ديفيد2"، في تموز/يوليو عام 2000، وفشلت كل محاولات الإنعاش الأميركية في إخراجه من حالة الموت السريري، ولا تلوح في الأفق بوادر إعادة إطلاقه من جديد.
الفصائل والقوى الفلسطينية المعارضة من حيث لاتفاقيات أوسلو ترى أن إعلان الرئيس الفلسطيني جاء متأخراً جداً، وهو ما يقر به المؤيدون للاتفاقيات، لكنهم يبررون تريث السلطة الفلسطينية بعدم إعطاء أي ذريعة لواشنطن وتل أبيب، إن أن استنفذت هذه الغاية ولم يعد من الممكن الاستمرار في وضعية التزام الفلسطينيين باتفاقيات لا تلتزم بها إسرائيل، رغم أنها تفرض قيوداً وشروطاً أمنية وسياسية على السلطة الفلسطينية، التزمت بها السلطة، رغم أنها تعتبر وبكل المقاييس مجحفة بالنسبة للجانب الفلسطيني.
الرئيس عباس أشار أيضاً في خطابة، بشكل غير مباشر، إلى أن حل السلطة الفلسطينية خيار قائم، بإشارته إلى أن اتفاقيات أوسلو لم تمنح الفلسطينيين سوى سلطة شكلية، وأن السلطة الفعلية مازالت هي سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإن إعلان الجانب الفلسطيني عن أنه لن يحترم بعد الآن تلك الاتفاقيات قد يترتب عليه حل السلطة الفلسطينية، حتى تعود إسرائيل لتحمل مسؤولياتها كسلطة احتلال، لكن بالطبع هذا لا يعني أن على الفلسطينيين أن يكونوا هم المبادرون إلى قرار حل السلطة، غير أنه يمكنهم أن يقدموا على خطوات من أجل انتزاع وتثبيت حقوقهم دون الخشية من تصعيد إسرائيلي، سقفه معروف سلفاً ويتمثل في أن تعيد إسرائيل فرض سيطرتها الكاملة على المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية، مناطق "أ" وفقاً لتقسيمات اتفاق أوسلو.
إلا أن حل السلطة الفلسطينية لا يشكِّل بديلاً بالنسبة للفلسطينيين، وإن كان يشكِّل مأزقاً لحكومة نتنياهو من شأنه أن بحرمها من هامش المناورة التي منحتها لها اتفاقيات أوسلو، واستفادت منها في تحسين صورتها دون أن تقدم أي تنازل سياسي، أو أن تتوقف عن سياساتها المتصلبة بحق الفلسطينيين، ناهيك عن شن حروب على قطاع غزة وفرض حصار شامل ومتواصل علية وزيادة مشاريع وعمليات الاستيطان.
وإذا كان منطق البحث عن تسوية سياسية للصراع يفترض أن يكون البديل لاتفاقيات أوسلو باتفاق جانبي الصراع، إلا أن تجربة 22 عاماً من العملية السياسية والتفاوضية، بين منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن العملية لن تتقدم سوى بتدخل فاعل للمجتمع الدولي، على أساس القرارات الدولية ذات الصلة، وتحت مظلة الأمم المتحدة و"الرباعية الدولية" لهيئة جماعية. وللأسف مازالت الولايات المتحدة تعطل حتى الآن أي جهد مشترك لـ"الرباعية" والأمم المتحدة.
وقبل الحديث عن إمكانية استنهاض دور الأمم المتحدة و"الرباعية" يجب استنهاض الحالة الفلسطينية، بإنهاء الانقسام السياسي والكياني الفلسطيني، واستعادة الوحدة الوطنية على أرضية برنامج قاسم وطني مشترك، يستطيع الفلسطينيون من خلاله وضع بدائل لاتفاقيات أوسلو، وتأمين روافع لتلك البدائل، حتى لا يرتد عدم الالتزام باتفاقيات أوسلو سلباً عليهم، ففي كل الأحوال أن يحافظ الفلسطينيون على انجازاتهم حتى ولو كانت قليلة، ومن ثم البناء عليها للوصول إلى كامل حقوقهم الثابتة والمشروعة.