المواجهات الواسعة بين شبان فلسطينيين وجنود الاحتلال في القدس الشرقية ومحيطها، وفي العديد من مدن وبلدات وقرى الضفة الفلسطينية المحتلة عام 1967، تؤكد أن الأوضاع باتت خارج نطاق السيطرة، وبدأت تتخذ مساراً تصاعدياً، سواء من حيث تمدد الاشتباكات إلى مناطق جديدة، أو لجهة الخطوات التي أقدمت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بإقرار حزمة من الإجراءات العقابية لقمع الفلسطينيين والتضييق عليهم.
شرارة المواجهات انطلقت من المسجد الأقصى، كرد فعل على تكرار وتصاعد وتيرة اجتياح المستوطنين للمسجد الأقصى، ومنع جنود الاحتلال المصلين الفلسطينيين من الوصول إلى حرم المسجد، في خطوة اعتبرت في سياق مسعى لتقسيم الحرم زمنياً ومكانياً بين المسلمين واليهود، في استنساخ لما جرى في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل. بيدّْ أن ثمة أسباب غير مباشرة لا تقل أهمية وحساسية عن المساس بالمسجد الأقصى، وكلها تشكل عوامل تدفع نحو انفجار انتفاضة فلسطينية ثالثة، من بينها التعليمات الجديدة التي تسمح للجنود الإسرائيليين بإطلاق النار على الفلسطينيين دون قيد أو شرط، ومواصلة عمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت، والاعتقالات الإدارية، واجتياح المدن والبلدات والقرى في الضفة الفلسطينية، وتقطيع أوصالها بالحواجز الأمنية للجيش الإسرائيلي، واستخدام عوائد الضرائب كسلاح للضغط على حكومة السلطة مالياً.
كل ذلك بالإضافة إلى الطريق المسدود الذي وصلت إليه العملية السياسية والتفاوضية، وإصرار الحكومات الإسرائيلية، منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، على إدارة الصراع، واللعب قدر ما أمكن على عامل الوقت لفرض وقائع ديمغرافية، من خلال تكثيف وتوسيع الاستيطان وجدار الفصل العنصري، يصعب تجاوزها في أي تسوية، وليس البحث عن تسوية سياسية بالاستناد إلى القرارات والخطط الدولية ذات الصلة.
وبإقرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجود السلطة لا يعدو كونه شكلياً في المناطق التي من المفترض أن تكون خاضعة لها، وهي لا تستطيع أن تؤدي وظائفها التي أنشأت من أجلها، إلى درجة أن الكثير من الأصوات في الساحة الفلسطينية بدأت تجاهر بالدعوة إلى حل السلطة، تحت دعوى أن الاحتلال الإسرائيلي يستغل وجودها الشكلي للتمويه على سياساته التوسعية والقمعية.
في المحصلة، يجد الفلسطينيون أنفسهم اليوم، بعد ما يقارب ربع قرن من المفاوضات، قد خسروا الكثير إلى درجة أنه لم يتبق لديهم ما يخسرونه، فجدار الضم والفصل، أو بالأحرى جدران الضم والفصل، لأن هناك ثلاثة جدران متداخلة، تقطِّع أراضي الضفة الفلسطينية إلى مجموعة معازل، وبدورها تحول المستوطنات المعازل إلى قطع جبنة سويسرية صغيرة، وتفصل القدس الشرقية ومحيطها عن باقي أراضي الضفة. مما خلق قناعة لدى غالبية الفلسطينيين بأن انتفاضة ثالثة هي وحدها السبيل إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من أراضيهم وحقوقهم.
ومن شأن حزمة الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها حكومة نتنياهو، بذريعة منع تمدد المواجهات وتحولها إلى انتفاضة ثالثة، أن تصب الزيت على النار، فالحزمة تشمل التسريع في هدم البيوت، وزيادة عدد جنود قواد الاحتلال في الضفة، وتوسيع نطاق الاعتقالات الإدارية، ومنع الفلسطينيين من دخول القدس الشرقية، لاسيما الحرم القدسي والبلدة القديمة، والتهديد باجتياح كامل مناطق السلطة الفلسطينية. وهذا لن يكون مقبولاً من الفلسطينيين، الذين خرجوا إلى الشوارع لكسر الإجراءات الإسرائيلية، بينما تتدحرج المواجهات ككرة من نار نحو انتفاضة فلسطينية ثالثة، باتت قائمة بالفعل، ومن المقدر لها أن تستمر لفترة طويلة قادمة، وإن على شكل موجات ليس بالضرورة أن تكون متواصلة يومياً.
وسيكون على حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، برئاسة نتنياهو، مواجهة مقاومة شعبية استطاعت في الانتفاضة الأولى عام 1987 إحراج الإسرائيليين وانتزاع مكاسب كبيرة، واستطاعت في الانتفاضة الثانية عام 2000 فرملة عمليات التهويد الإسرائيلي للبلدة القديمة في القدس الشرقية، والانتفاضة الثالثة عنوانها مرة أخرى الدفاع عن المسجد الأقصى، لكن إلى جانبه العديد من العناوين، في مقدمتها مواجهة الاستيطان والقمع والاعتقالات ومصادرة الأراضي والحصار وهدم البيوت، وهي عناوين تمثل روافع الانتفاضة الثالثة، التي نشهد أول فصل من فصولها، والأيام القليلة القادمة ستكون حاسمة في هذا الاتجاه.