ولد في نفس العام الذي خرجت فيه دكتور جيفاغو إلى النور، أبوه كان دبلوماسيا مثل الاتحاد السوفيتي في معرض بروكسل الذي ظهرت فيه الرواية لأول مرة. عاد الأب إلى لينينغراد بهدية لولده عبارة عن سيارة فولكسفاغن صغيرة، ونسخة مطبوعة من الرواية أخفاها في حقيبته الدبلوماسية. جمع الأب العديد من الأعمال الأدبية المحظورة لكتاب معاصرين، مما أتاح للابن الاطلاع على نابوكوف، برودسكي، سولجينيستين. صنع الإبن من هذه المجموعة من الكتب مكتبته الخاصة. ورغم أن الابن فقد نسخة الرواية التي كان يملكها، حيث استعارها أحد الأصدقاء ولم يعدها، إلا أن تاريخ الرواية والجدل الذي ثار حولها ظل حيا في ذاكرته. وفي عام 1988، بعد فتح الحدود السوفيتية، سافر الابن إيفان تالستوي إلى فرنسا وحصل على نسخة من الرواية الغامضة، إلى جانب روايات أخرى كتبها أدباء المهجر، ممن حظرت أعمالهم، وبعد أن قرأ الرواية، صار لديه ما يشبه اليقين أن ما أثير حول الرواية صحيحا. قرر إيفان فتح الملف، والبحث عن دلائل تؤكد هواجسه التي ظلت تطارده على مدار سنوات طويلة.
تحكي رواية باسترناك "دكتور جيفاغو" — وهي التسمية الصحيحة للرواية وليس دكتور زيفاغو — عن يوري جيفاغو، فارقت أمه الحياة وهو مازال صغيرا، رباه خاله كوليا، التحق يوري بكلية الطب بجامعة موسكو حيث قابل تونيا، تزوجها وأنجب منها طفله ساشا، خدم يوري بالجيش كضابط طبيب، في مدينة صغيرة حيث قابل لارا، وقع في غرامها. ونظرا لصعوبة وقسوة الوضع في موسكو، فالأسرة الصغيرة عانت لتوفير احتياجات الحياة الأساسية، لذا قرر يوري الرحيل إلى مدينة أخرى… فارينيكا. تمزق يوري بين عناء الحياة وواقع روسيا السوفيتية العنيف المضطرب، وبين حب امرأتين، كفر بالثورة، التي كرست للقمع والظلم والتعسف، فقد خذلته وخيبت أمله، تبدلت أفكار الثوار بعد الثورة، وفعلت السلطة فعلها في البشر. إنها الرواية التي رسمت صورة لفرد ينتصر لما يؤمن به، رافضا الماركسية، الإيديولوجية الرسمية للدولة.
تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي لديفيد لين، بطولة النجم المصري عمر الشريف وجولي كريستي. لكن ما هو السر في اختيار هذه الرواية بالتحديد لتحويلها لفيلم عام 1965؟ الإجابة تبدأ عند المخابرات البريطانية التي رأت في رواية باسترناك فرصة لضرب الاتحاد السوفيتي في مقتل، لما لها من قيمة دعائية، فهل تمثل اتجاها معاكسا تماما للإيديولوجية السوفيتية وتيار الواقعية الاشتراكية، الذي كان سائدا حينها. أرسلت المخابرات البريطانية رسالة لنظيرتها الأميركية مع نسخ من الرواية وأوصت بنشرها في روسيا ودول الكتلة الشيوعية. لقي الأمر قبولا لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية على الفور، فقررت بدء العمل فورا في تنفيذ خطة لنشر الرواية، ليس فقط داخل دول الكتلة الشيوعية، لكن ترجمتها بعدة لغات أجنبية تتيح فرصا أكبر لتشويه الاتحاد السوفيتي على نطاق أوسع.
ومن المواقف التي أكدت شكوك إيفان تالستوي، ودفعته لمواصلة بحثه عن الحقيقة، مقابلة جرت بينه وبين غريغوري دانيلوف في ميونخ، حيث عمل إيفان هناك في راديو الحرية. غريغوري كان يعمل كمحرر في الاتحاد المركزي لمهاجري ما بعد الحرب، وهو فرع أوروبي لوكالة الاستخبارات الأمريكية. ذكر دانيلوف أن الرواية كانت واحدا من مشاريع الاتحاد، مضيفا أن مخطوط الرواية تم تسريبه من خلال القنوات الخلفية لجهاز المخابرات الأمريكي. وبعد أن قضى إيفان ما يقرب من عشرين عاما من البحث، متجولا بين عدد من دول العالم، قرر في ديسمبر/كانون الأول من عام 2006، أن لديه ما يكفي للإعلان عن اكتشافه، وفي محاضرة ألقاها بمكتبة موسكو للأدب الأجنبي، ذكر إيفان تالستوي أن المخابرات الأمريكية والبريطانية وقفت خلف مشروع الترويج لرواية باسترناك "دكتور جيفاغو"، وأنها نشرت النسخة الروسية تحديدا لاستكمال مصوغات ترشيح باسترناك لجائزة نوبل، ومن ثم فوزه بها عام 1958. ورفضت المخابرات الأمريكية حينها التعليق على هذا الكشف.
وقد كشفت جريدة الصانداي تايمز عن شخصية لارا الحقيقية وتدعى "أولغا "، ونشرت الصحيفة مذكراتها التي تحكي عن علاقة أولغا بباسترناك التي صدرت في كتاب بعنوان "أيامي مع باسترناك"، ذكرت فيها تفاصيل علاقتها بدكتور جيفاغو. ولم يكن من مقاصد إيفان تالستوي التقليل من شأن باسترناك، أو استنكار فوزه بجائزة نوبل، لكنه أراد فقط البحث عن الحقيقة. وقد عقد عدة مقابلات مع العديد من الأشخاص في الدوائر القريبة من باسترناك، منهم جاكلين دي برويارت، التي تصدر صديقها ألبرت كامو حملة ترشيح باسترناك لجائزة نوبل، وكان من أكثر المتحمسين له.
وقد صدر في الولايات المتحدة الأمريكية كتاب بعنوان "قضية جيفاغو: الكرملين والسي أي إيه والمعركة حول الكتاب الممنوع"، أعده كل من بيترا كوفي، الباحثة الروسية، وبيتر فن، الصحفي في جريدة الواشنطن بوست. يشرح الكتاب الطريقة التي روجت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية للرواية، وكيف رتبت لإصدار نسخة باللغة الروسية في هولندا، تم توزيع هذه النسخة في معرض كتاب بروكسل، في جناح الفاتيكان، ووزعت منها العديد من النسخ على الزوار الروس. وهذا يتفق تماما مع رواية إيفان تالستوي. ذكر فن وكوفي كيف انتهى باسترناك من كتابة الرواية بعد وفاة ستالين، وكيف كان ستالين داعما له. وقد ركز فريق الاستخبارات الأمريكية المفوض بالترويج للرواية، على رأسهم جون موري، على رسالة باسترناك التي تقوم على حرية الفرد في تقرير مصيره والتمتع بحياته الخاصة، بعيدا عن الدولة.
تقدم فن وكوفي بطلب للسلطات الأمريكية بالإفراج عن المستندات الخاصة بالقضية، ولكن طلبه قوبل بالرفض، لكنها وافقت لاحقا، ونجح فن وكوفي في الحصول على الكثير من المعلومات حول هذه العملية الكبيرة، من خلال شهادات أقارب باسترناك وأصدقائه الأحياء، بالإضافة إلى عدد من المصادر الأخرى. وذكر فن أن عميلا للاستخبارات البريطانية هرب صورة فوتوغرافية من نص الرواية، أودعه باسترناك في حوزة مجموعة من الأجانب كانوا في زيارة له، بعد تأكده من رفض السلطات السوفيتية نشر الرواية، ومن ضمن هؤلاء الناشر الإيطالي جيانجياكومــو فليترنيلي. وسلم باسترناك نسخا من الرواية كذلك لمحاضرين في جامعة أوكسفورد، هما الفيلسوف آسيا برلن وجورج كاكتوف، أثناء زيارتهم له في بيته في بريديلكينو قرب موســكو. ومن المحتمل أن يكون جورج كاكتوف، الذي كان يتقن اللغة الروسية، هو الوسيط الذي سلم النسخة للمخابرات البريطانية، فقد كان له علاقات واسعة مع الكثير من أفراد السلك الدبلوماسي البريطاني.