وصفها نيكولاي نفسه بـ"قصيدة نثرية ملحمية" أو "رواية شعرية"، واعتبرالنقاد الرواية، التي استهدف من خلالها غوغول عرض أخطاء ومعايب الشخصية الروسية، من أعظم ما كتب في الأدب الروسي. إنها رواية المعاصي والنار، كتبت بروح الإنجيل ويجب أن تكتمل به، كما يرى فلاديمير شاروف، الروائي والمؤرخ الحائز على جائزة البوكر الروسية عن روايته "العودة إلى مصر" لعام 2014. احترق الجزء الثاني من "الأنفس الميتة" دون سبب معلوم، أو ربما حرقها نيكولاي نفسه. لم يعش نيكولاي ليكتب الجزء الثالث، ولهذا قرر فلاديمير شاروف كتابة رواية "العودة إلى مصر" ليكتب ما لم يكتبه غوغول.
ينحدر بطل الرواية الرئيسي، الذي يعمل مهندسا زراعيا، من سلالة الكاتب الكلاسيكي العظيم ويحمل نفس اسمه… نيكولاي غوغول. والحقيقة أن الرواية ليست سيرة ذاتية لنيكولاي غوغول، إنما تستعرض رحلة حياة أجيال مختلفة وأقدارهم، التي تتوازى مع أحداث التاريخ الروسي، وترتبط حياة هذه الأجيال مباشرة بالإنجيل، خاصة "سفر الخروج". احتاج فلاديمير شاروف، الذي وصفه أحد النقاد بأنه "واحد من أصعب الكتاب الروسي، ولكنه أكثرهم إمتاعا"، إلى خمس سنوات ونصف لكتابة الرواية. وقد قيل أن شاروف، المؤرخ الحاصل على الدكتوراة في التاريخ، عثر في أرشيف أحد معاهد التاريخ بموسكو على كم هائل من الرسائل، تم إراجها وحفظها في أرشيف المعهد في ثمانينيات القرن الماضي، أثناء العهد السوفيتي، ومثلت هذه الرسائل نواة لرواية "العودة إلى مصر". ويبرز هنا تساؤل عما إذا كان شاروف قد استعان بهذه الرسائل نصا في روايته أم أنه أعمل خياله وحيله الفنية. وجدير بالذكر أن الرواية كتبت على نمط رواية الرسائل المعروفة (إبيستولاري نوفل)، يتبادل فيها أفراد العائلة الرسائل، التي تصنع تاريخ هذه العائلة. تقترب شخصيات الرواية من عشرين شخصية، إما يكتبون الرسائل أو يتلقونها، تربطهم صلة قرابة، بدرجات متفاوتة.
مقطع من الرواية:
"ماما… لم أكتب لك طيلة عشرة أيام. الأخبار كثيرة، ولا يسعفني الوقت. المهم — أفرج عن أبي، هو عندي الآن. علمت أنه في الشهور الأخيرة يفرجون، ليس فقط عمن قضوا مدة العقوبة، بل حتى عن المسجونين مؤخرا، وعلى أصحاب الأحكام المغلظة — بمدد عشرين وخمسة وعشرين عاما، وفي كل الأحوال حاولت معرفة ما إذا كان أبي قد شمله العفو أم لا. فكرت في مقابلته. رده كان غامضا، كتب مؤكدا أنهم يفرجون عن الناس، أفرج المعسكر عن ثلثهم، لكنه لا يعرف متى يأتي دوره، وهل سيأتي أم لا، لا أحد يستطيع القول. موسكو هي التي تقرر كل شيء، لا تستطيع السلطة هنا تقرير شيء. ما أفهمه الآن، أنه أراد رؤيتك أولا. ليس لإلغاء هذه الثمانية عشر عاما، ومواصلة الحياة، لكن لطلب الغفران. إنه يفهم بالتأكيد أنك لن تعودين إليه. حتى أنه قال مرتين أنه سعيد أنك أخيرا مع انسان أحببتيه منذ شبابك، موعودة له برضا والديك".
يصنف بعض النقاد عمل شاروف أنه "عمل صعب"، لم يكتب للقاريء العادي، إنما لقاريء من نوع خاص. ويدافع شاروف عن نفسه مستنكرا أنه يكتب لقاريء بعينه، إنما هو "يكتب فقط، يخرج ما بداخله ويضعه على الورق، وبعد أن يصير النص بين يدي القاريء، يتراجع خطوات إلى الوراء، ويترك القاريء ليرى ما يرى." ويعتبر فلاديمير أن "الرواية وقت صنعها مثل الطفل داخل الرحم تماما، تفهم أشياء عنها وهي لا تزل داخلك، لكن عندما ينقطع الحبل السري، تبدأ الرواية حياة أخرى، وتحب أن تصبح هذه الحياة جيدة. ليس لك أية سيطرة على النص حينئذ، ويجب عليك أن تتنحى جانبا". وبخصوص الجائزة، إنه لا ينتظر الجوائز، اإنما يرى فائدة عظيمة للجائزة، إنها تفتح أبوب التواصل بين الكاتب والقراء، وقد تضم إلى جمهوره شرائح جديدة لم تتح له من قبل، حيث يتيح اهتمام الناشرين والأجانب قدرا كبيرا من الانتشار، وعليه تكون فرص العمل في الترجمة للغات أخرى متاحة بشكل أكبر.
ولد الكاتب، الذي دخل عالم الأدب أواخر السبعينيات، عام 1952، ليكرر تحول أبيه إلى الكتابة في الستينات من علم الجينات. والحقيقة لم يعرف شاروف طريقة إلى الشهرة إلا في التسعينيات، حين لفتت أعماله التاريخية الفلسفية أنظار القراء والنقاد، وأثارت أعماله جدلا واسعا في الأوساط الأدبية والمهتمين بالأدب، خاصة مجلة "نوفي مير". امتدح النقاد أسلوب شاروف، وتوظيفه للأدب في استكشاف القاعدة الميثولوجية والدينية للتاريخ والفكر الروسي، خاصة الثوري منه. واصل شاروف عمله في استجلاء الماهية الفلسفية للتاريخ والنصوص الدينية. اعتبره العديد من النقاد "عملا كلاسيكيا حيا"، لكن خلال هذه التأملات المعقدة، تظل رؤيته الخاصة مراوغة خفية. وقد وصف شاروف نفسه في إحدى المقابلات أنه واقعي، وسخر من فكرة أنه كاتب أدب تاريخي، معتقدا أن "هناك تاريخا حقيقيا، بعيدا عن الحقائق والأحداث، لم يعرف طريقه إلى الكتب الدراسية". من أعماله "كن كطفل" عام 2008، "عشرون عاما من الحرية" عام 2006، "بعث لازاروس" عام 2003، "الفتاة الصغيرة المسنة" عام 2000. حصل على جائزة مؤسسة زناميا عام 1998، جائزة كتاب العام 2008، القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الكبير أعوام 2008 و2014، وأخيرا جائزة البوكر الروسي 2014.
وقد ظن البعض عندما قرأ العنوان أن شاروف قرر أن يكتب عن مصر، والحقيقة أن الرواية لم تستهدف الكلام عن مصر، إنما الأمر له علاقة بشاروف نفسه وفكره، إنه كاتب إنجيلي يقول عن نفسه إنه يحاول فهم التاريخ الروسي كله من خلال الإنجيل، وغوغول نفسه، الذي يحاول شاروف استكمال عمله كان إنجيليا، وفي العنوان إشارة اإنجيلية واضحة إلى "سفر الخروج". وفي كلمته في حفل تسليم الجائزة قال شاروف: "قدمنا من مصر، وفي لحظة ما عدنا للوراء، ومن ثم إليها، إلى مصر."