لقد انتهت الجولة التاسعة من الحوار بين القوى السياسية اللبنانية دون أي نتائج ملموسة، حيث مازال النقاش يغلب عليه طابع الدردشة في سياق نقاش عام، حول القضيتين الرئيسيتين المطروحتين على جدول الأعمال، وهما الاتفاق على ملء الفراغ الرئاسي ووضع قانون الانتخابات الذي تجرى على أساسه الانتخابات البرلمانية القادمة. في القضية الأولى الحوار عالق عند نقطة المواصفات المطلوب توافرها في شخصية الرئيس وتوجهاته السياسية، بينما علق في القضية الثانية عند إقرار "القانون الأرثوذكسي" أو "قانون مختلط"، أو "قانون النسبية"، أو العودة إلى "قانون الستين"، أو وضع قانون جديد يأخذ بأكثر من معيار وفقاً للخصوصية اللبنانية.
المواصفات الشخصية المطلوبة للترشيح إلى كرسي الرئاسة، بما فيها المعتقدات السياسية، يرى البعض ضرورة أن يكون المرشح حيادياً بين القوى السياسية وفي الملفات الداخلية اللبنانية، وأن ينأى بنفسه عن خلافات المحاور العربية، في حين يرى البعض الآخر أن مهام منصبه تتطلب منه اتخاذ مواقف في الملفات الداخلية اللبنانية، وعدم تقييد صلاحياته، بل ومن واجبه أن يعمل على جمع كلمة اللبنانيين، وقبل كل ما سبق لا أحد يستطيع إعطاء تعريف محدد لمعنى مقولة "النأي بالنفس"، وكيف يمكن ترجمتها على أرض الواقع.
أما في القضية الثانية فليست أقل إشكالية من الأولى، فالقوانين الثلاثة المقترحة أرضياتها متباعدة ، إذ يعتمد "القانون الأرثوذكسي" النظام النسبي في الانتخابات التي تقام على قاعدة لبنان دائرة انتخابية واحدة، كما أنه يرفع عدد المقاعد النيابية من 128 إلى 134 نائباً، على أن تقسم المقاعد النيابية وتوزع حسب الطوائف والمناطق وفق الجدول المرفق بالقانون الرقم 25/2008 وأن يقترع الناخبون للمرشحين الذين ينتمون إلى طائفتهم فقط، وتشكل اللوائح الانتخابية من مرشحين ذات الطائفة الواحدة، وهذه نقطة الخلاف الجوهرية.
بينما "قانون النسبية" يقوم على لبنان دائرة واحدة والتمثيل فيها يتجاوز المحاصصة الطائفية، وهو ما ترفضه غالبية القوى السياسية بدعوى أن لبنان بانقساماته، الطائفية والمذهبية والسياسية، غير مهيأ بعد للعمل بـ"قانون النسبية"، علماً بأن "اتفاق الطائف" كان قد نص على ضرورة وضع نظام انتخابي جديد يصب في هدف إنهاء الطائفية السياسية، و"القانون المختلط"، (64 نائبا بالانتخاب الأكثري و64 نائبا بالانتخاب النسبي)، أيضاً محل اعتراض بعض القوى السياسية والحزبية.
في مواصفات الرئيس المطلوبة من الواضح أن كل طرف من أطراف الحوار اللبناني يريد أن يضع مواصفات تخدم توجهاته السياسية، ولذلك ينصب الحديث عن دور الرئيس في إدارة الخلافات أو النأي بالنفس عنها، وليس بذل القوى السياسية والحزبية اللبنانية الجهد لحل خلافاتها، وإخراج الحكومة من حالة الشلل، وملء الفراغ الرئاسي، ووضع أرضية لبنانية مشتركة للتعاطي مع القضايا الإقليمية والدولية الرئيسية.
ومن المرجح أن لا تقود الجولات القادمة إلى تغيير إيجابي في المواقف، فكل الأطراف مازالت متمسكة بمواقفها، وأقصى ما تعمل من أجله منع انفجار الحالة اللبنانية، بالإبقاء على توافق ضمني مؤداه ترجمة شعار "لا غالب ولا مغلوب" في المرحلة الراهنة، أو بتعبير آخر ضبط الخلافات تحت سقف منع انهيار الحكومة، أو إصابتها بالشلل الكامل، والحفاظ على الاستقرار والأمن، بصرف النظر عن بقاء الخلافات حول الملف السوري، وعدم الاستعجال في حسم ملف القانون الانتخابي، وتحقيق النقاط الثلاث المذكورة يحتاج إلى جهد كبير ومرونة في المواقف.
لكن حشر النقاشات في النصف الفارغ من الكأس، على طاولة الحوار اللبناني، يهدد بعدم تمكن القوى السياسية والحزبية من ضبط خلافاتها تحت سقف منع انهيار الحكومة والحفاظ على الأمن والاستقرار، لأن ذلك رهن بتوافق سياسي أولاً، ولا غنى عنه في بلد مثل لبنان، متنوع طائفياً ومذهبياً وسياسياً، ويتأثر أكثر من غيره بتداعيات الأزمات الإقليمية، وسياسات المحاور المختلفة. وهو ما يضع على كاهل القوى السياسية والحزبية إبداء مرونة كافية لتسهيل الوصول إلى حل متكامل وشامل، للقضايا الدستورية — الانتخابية والسياسية، وتجنيب لبنان أزمة داخلية قد تخرج عن نطاق السيطرة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)