يحتفل العالم في 21 شباط/فبراير من كل عام، باليوم العالمي للغة الأم، وتم الإعلان عن هذا اليوم في المؤتمر العام لمنظمة "اليونسكو" عام 1999، لتسليط الضوء على أهمية اللغة الأم وضرورة الحفاظ على التنوع اللغوي والثقافي للبشرية، ومن أجل هذا الغرض تقام سنوياً العشرات من المؤتمرات، إلا أن النتائج المحققة دون الحد الأدنى من الطموحات، فما زال التراث الإنساني العالمي يخسر ما يقارب 25 لغة محلية سنوياً، وهذا رقم مخيف يمثل كارثة إنسانية بكل المقاييس.
تقرير منظمة "اليونسكو" بمناسبة الاحتفال بيوم اللغة الأم لهذا العام لم يختلف عن التقارير السابقة في إعطاء صورة سوداوية عن واقع الغالبية من اللغات الأم في العالم والمصير القاتم الذي ينتظرها، وسبق أن لفتت المنظمة في تقريرها الصادر عام 2012 إلى ضرورة الاهتمام باللغات الأم، للحفاظ عليها من الانقراض أو الاندثار، وقالت المنظمة بأنها تخشى من انقراض أو اندثار 3000 لغة من مجموع 6000 لغة موجودة في العالم حالياً، وحسب تقديرات خبراء في المنظمة اللغات الأم تختفي بواقع لغتين أسبوعياً.
تقدير صادم لا يعني فقط خسارة البشرية للغة، بل اندثار تراث شعب من الشعوب، وترجع تقارير "اليونسكو" أسباب ذلك إلى الحروب والتهجير وازدراء اللغات، بالإضافة إلى امتزاج اللغات، وخلال العقدين الماضيين يلاحظ أن العولمة أدت إلى انتشار بعض اللغات على مستوى العالم، لاسيما اللغة الإنجليزية، على حساب اللغات الأخرى، وليس فقط على حساب اللغات المحلية الأم لمجموعات سكانية أو عرقية صغيرة، بل أيضاً على حساب لغات رسمية في العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وحتى في داخل الاتحاد الأوروبي ثمة لغات وطنية تواجه تحديات كبيرة، مثل اللغات الدنماركية والنرويجية والسويدية والهولندية، لتراجع عدد الناطقين بها، والاستخدام الواسع في تلك البلدان للغة الإنجليزية.
اللغة العربية بدورها تواجه تحديات لا تحسد عليها، رغم أنها كانت اللغة السادسة التي يحتفى بها عالمياً، إلى جانب اللغات الفرنسية والإنجليزية والروسية والإسبانية والصينية، ويحتل سنوياً في 18 كانون الأول/ديسمبر من كل عام، باليوم العالمي للغة العربية، ويشار إلى أن الأمم المتحدة أدخلت في مثل هذا اليوم من عام 1973 اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وفقاً للقرار رقم 3190 الصادر عن الدورة 28 للجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أن اللغة العربية تشهد للأسف تراجعاً داخل البلدان الناطقة بها، وتلعب وسائل الإعلام في تلك البلدان دوراً كبيراً في إضعاف اللغة العربية بدل دعمها وتقويتها، لانتشار استخدام اللغة العامية الدارجة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، والإكثار من استخدام الكلمات والمصطلحات الأجنبية، وضعف إعداد المذيعين ومقدمي البرامج.. الخ.
أكثر من 500 باحث عربي وعالمي مختص بعلم اللسانيات وعلم الاجتماع والطب النفسي حذروا في مؤتمر عقد في شباط/فبراير عام 2007، بالتزامن مع الاحتفالية العالمية بيوم اللغات الأم، من أن اللغة العربية من اللغات المعرضة للانقراض، لصالح اللهجات المحلية المحكية، بينما تبقى العربية الفصحى لغة القرآن الكريم فقط، ويعود ذلك بناء على رؤية الباحثين إلى أن السياسات اللغوية للدول العربية تميل إلى تفضيل اللهجات العامية واللغات الأجنبية في مجالات الحياة المختلفة كالإعلام والتعليم، وتشجّع العاميّة في الإذاعة والتلفزة ولا تمنعها أو تقلل منها.
في بعض البلدان مثل ألمانيا والسويد والنرويج والدنمارك وهولندا بدأت تثار قضية اللغة العربية كواحدة من اللغات الأم من زاوية أخرى، تتعلق بأبناء مئات آلاف اللاجئين الجدد خلال الأعوام الأربعة الماضية، لاسيما اللاجئين السوريين، فالجيل الجديد منهم لن يتمكن من تعلم لغته الأم في المدارس، وفي أفضل الأحوال سيحصل الطالب من أصول عربية في تلك البلدان على حصة دراسية واحدة أسبوعياً بلغته الأم، في حين يرتبط ترسيخه في تلك المجتمعات والاندماج فيها بتعلم لغتها، وبالتالي لن تكون لغته الأم، بالنسبة له من هذا المنظور، بأهمية لغة البلد الذي لجأ إليه أهله، ولا حتى بأهمية اللغة الإنكليزية كلغة ثانية في غالبية بلدان الاتحاد الأوروبي.
ورغم اعتقادنا بأن التحذيرات من انقراض اللغة العربية مبالغ فيها، إلا أنها باتت تعاني من الضعف وإهمال الناطقين بها، وكذلك إهمال رسمي حكومي، وهذا سيؤدي إلى تراجعها بالتأكيد، ومن الواجب حمايتها كواحدة من أهم اللغات الإنسانية التي أثرت الحضارة البشرية، كما يجب حماية كل اللغات الأخرى، بما فيها اللغات الأم لأقليات قومية أو عرقية في شتى بقاع المعمورة، فخسارة تلك اللغات أو تراجعها بمثابة نزيف للتراث والثقافة والفكر الإنساني أجمع.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)