اختار أبناء بلاد الشام يوم السادس من أيار/مايو عيداً للشهداء إكراماً لمن قضوا في حملة الإعدامات التي قام بها جمال باشا السفاح بحق نخبة من المناضلين والمثقفين من سورية ولبنان وفلسطين، واختير هذا اليوم من العام 1916 لأنه كان الأكثر دموية في عدد المشانق التي نصبت في دمشق وبيروت على يد الاحتلال العثماني. الحملة بدأت في آب/أغسطس عام 1915 واستمرت حتى عام 1917، وشملت مفكرين ومثقفين وسياسيين ورجال دين، من كل أطياف ومنابت ومذاهب وطوائف أبناء بلاد الشام، ليتعانق دماء شفيق بك مؤيد العظم والشيخ عبد الحميد الزهراوي والأمير عمر الجزائري ورفيق رزق سلوم من سورية مع دماء عبد الغني العريسي وجرجي حداد وأحمد طبارة من لبنان وعلى عمر النشاشيبي ومحمد الشنطي اليافي من فلسطين وآخرين لا يتسع المجال لذكر أسمائهم.
بعد مئة عام على يوم الشهداء مازالت ذكرى من قضوا على حبال المشانق حية في القلوب، شاهداً على التضحيات التي قدمها الأجداد من أجل الانعتاق من ربقة الاحتلال العثماني، وشاهداً على جرائم العثمانيين بحق أبناء بلاد الشام، ومحاولات سلاطين البيت العالي شطب الكينونة والهوية العربية، بحملات التتريك والتجهيل، وكل ذلك تحت عباءة ما يسمى بـ "الخلافة الإسلامية العثمانية".. ومازال يوم الشهداء يرمز إلى وحدة نضال أبناء بلاد الشام، رغم ما حل بهم وبأوطانهم من نوائب خلال قرن من الزمان.
لم يكن سلاطين الباب العالي وحدهم من يتربصون بالعرب، ففي الوقت الذي كان فيه جمال باشا السفاح ينصب المشانق للعرب كان البريطانيون والفرنسيون يعملون على تقسيم تركة الخلافة العثمانية، لتقسيم البلدان العربية واستعمارها، وسعت أكبر دولتين استعماريتين حينها لجذب روسيا القيصرية إلى جانبهما بإعطائها جائزة ترضية من مناطق سيطرة "الرجل المريض"، لولا قيام الثورة البلشفية في روسيا وفضحها للاتفاقية التي يصطلح على تسميها بـ"اتفاقية سايكس — بيكو"، نسبة إلى مارك سايكس المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى وجورج بيكو القنصل الفرنسي في بيروت وبعدها المندوب الفرنسي السامي لمتابعة شؤون الشرق الأدنى عند التفاوض على الاتفاقية والتوقيع عليها.
قسمت الاتفاقية المشرق العربي إلى مجموعة من الدويلات، جرى تفصيلها كي تكون السيطرة الاستعمارية عليها سهلة، ويتم توزيع ثروات العرب ونهبها، ناهيك عن تحقيق المشاريع والأطماع الاستعمارية باقتطاع أجزاء من بلاد الشام، والعمل على زرع خلافات اثنية وعرقية ودينية ومذهبية بين أبناء الشعب الواحد، حتى يبقى حلم الاستقلال والاستقرار والتطور بعيد المنال، غير أن أبناء سورية أفشلوا بنضالهم تقسيم سورية، بحدودها التي نعرفها اليوم، إلى أربع دويلات، واستطاعوا الإبقاء على وحدة الشعب والأرض، وكذلك فعل أبناء العراق بحدوده الراهنة، بينما خسر الفلسطينيون وطنهم، بتكريس الاحتلال البريطاني كل جهده لتنفيذ ما يسمى بـ"وعد بلفور"، الذي نص على "إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين"، على حساب الفلسطينيين.
وحتى يومنا هذا؛ بعد مرور مئة عام على يوم الشهداء وتوقيع اتفاقية سايكس- بيكو، مازالت الجريمة مستمرة، بالحروب المباشرة على الشعوب العربية، مثل غزو العراق واحتلاله والحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب، أو من خلال الحروب غير المباشرة بإشعال الصراعات والنزاعات وصب الزيت على نارها، حتى لا تقوم للعرب قائمة، وكي تبقى بلادهم مرتعاً لقوى الهيمنة والنهب الكولونيالي. والنتائج الوخيمة للحروب غير المباشرة كانت أكبر وأشد إيلاماً لشعوبنا، ليس فقط لجهة عدد الضحايا، بل لأنها تعمل على تقسيم أبناء الشعب الواحد إلى مجموعات متناحرة على أساس المنبت العرقي أو الاثني أو المعتقد الديني أو المذهبي.
ووقوع العرب في فخها يعيدهم إلى شباك سايكس- بيكو، مقدمة لاستكمال ما عجزت عن تنفيذه فرنسا وبريطانيا في ذلك الوقت، وخرائط التقسيم جاهزة ومعلنة، فوفقاً للخارطة التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، عام 2013، ستصبح السعودية وسورية وليبيا واليمن والعراق 14 دولة بدل خمس دول..
الجريمة مازالت مستمرة وأدوات تنفيذها العرب بأنفسهم، بعد مئة عام من الاحتفاء بعيد الشهداء والنضال ضد اتفاقية سايكس- بيكو والتحذير من اتفاقيات قد تتناسل عنها.. مفارقة لا تحتاج إلى تعليق بل إلى وقفة مراجعة من جميع أطراف الأزمات والصراعات العربية قبل فوات الأوان.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)

