تبدو حكايات المهاجرين الإريتريين متشابهة، ومطالب وأمنيات غالبيتهم متشابهة أيضاً وبسيطة، فغالبيتهم سواء الشباب منهم أو الرجال أو حتى الكهول فروا من بلادهم هرباً من التجنيد الإجباري في الجيش، ومن ظروف القتل والقمع والاضطهاد والتعذيب والصراعات والتجويع والإخفاء القسري، وتفر النساء الإريتريات أيضاً من عمليات الاعتداء والخطف والاغتصاب المنتشرة في بلدهن على نطاق واسع، وتشير العديد من التقارير إلى أنها عمليات منظمة، وعادة ما يفلت مرتكبوها من العقاب.
مهاجر إريتري، في العقد الرابع من العمر، وصل إلى إحدى الدول الاسكندينافية قبل 3 سنوات، واستطاع أن يلم شمل أسرته، ويحظى الآن —كما يقول- بالاستقرار وحياة كريمة بفضل ما يقدم له من مساعدات في برنامج الترسيخ، لكنه يردف إنه مازال بعيداً عن الاستقرار النفسي، لأنه مازال يعيش كوابيس ما تعرض له في بلده من اضطهاد وخوف وقهر، وما زال يتذكر رحلة الهجرة، أو كما يسميها (رحلة الموت)، عبر الصحراء الكبرى وصولاً إلى السواحل الليبية في العام 2013، ومن ثم الإبحار في قارب متهرئ نحو الشواطئ الإيطالية، وسبق رحلة زورقهم غرق العديد من الزوارق كان على متنها الكثير من الإريتريين، يعرف بعضهم شخصياً، لكن لم يكن أمامه سوى المضي في (المقامرة) بحياته، وكان الحظ إلى جانبه، على عكس آخرين.
ويقول ذلك المهاجر الإريتري عن سبب فراره من بلده، وطلب اللجوء السياسي في بلد أوروبي، إنه فر من التجنيد الإجباري في الجيش، الذي يمتد لفترة غير محدودة، والتعامل فيه أشبه ما يكون بالعبودية، ويضيف: أنا فلاح فقير وعندما تم سوقي للتجنيد الإجباري تركت أمر رعاية الأرض لوالدي العجوز وزوجتي.. لم يكن باستطاعتهما القيام بالجهد الشاق الذي تتطلبه الفلاحة والزراعة والري وحصاد المحصول وتسويقه، فأصاب الأرض البوار، وطالما خشيت من أن تتعرض زوجتي للخطف أو الاغتصاب، وهذه حكاية كل المهاجرين وطالبي اللجوء السياسي الإريتريين، مع اختلاف في التفاصيل ليس أكثر.
الآلاف من الشهادات الموثقة تؤكد ما سبق، بل وتعرض جرائم مروعة ارتكبت في إريتريا، وأصدرت لجنة التحقيق التابعة للمنظمة الدولية، الخاصة بالتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في إريتريا، تقريراً في الثامن من الشهر الجاري قالت فيه: "إن الفظائع اشتملت على برنامج تجنيد وطني لفترة لا نهائية بما يصل إلى حد الاستعباد الجماعي، وإنها ارتكبت منذ استقلال البلاد عام 1991 وما زالت مستمرة..". في سياق متصل؛ قال مايك سميث رئيس اللجنة: "إن ما يتراوح بين 300 ألف و400 ألف شخص خضعوا للاستعباد".
وأضافت اللجنة في تقريرها: "يتحمل أفراد معينون، بينهم مسؤولون على أعلى مستوى في الدولة من الحزب الحاكم حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة ومسؤولون كبار، المسؤولية عن جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات جسيمة أخرى لحقوق الإنسان"، وأكدت اللجنة أنه "لم يحدث تحسن منذ عام عندما نشرت اللجنة ملفا من 484 صفحة وأوردت فيه عمليات قتل خارج نطاق القانون وتعذيب واسع النطاق واستعباد جنسي وعمالة قسرية".
ودعا المحققون الدوليون في نهاية تقريرهم مجلس الأمن الدولي إلى فرض عقوبات على حكومة الرئيس أسياس أفورقي، وإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية. إلا أن الحكومة الإريترية تعامت باستهزاء مع لجنة التحقيق الدولية والتقرير الصادر عنها، ورفضت توصياتها وقالت "إنها ترى فيها ليس فقط هجوماً على إريتريا، بل على أفريقيا والدول النامية أيضاً".
وبانتظار النقاش الذي سيجريه مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، حول التقرير في 21 حزيران (يونيو) الجاري، والذي من المتوقع أن يتوج بصدور قرار ضد إريتريا، تقدّمت بمشروعه دول أفريقية أخرى، سيراقب الإريتريون عن كثب كيف سيتابع مجلس الأمن توصيات مجلس حقوق الإنسان، وهي قضية تتعلق بمصير مئات الآلاف.
فوفقاً لما أكده المفوض السامي التابع للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إن عدد الإريتريين الطالبين حق اللجوء السياسي وصل إلى أكثر من 444 ألفا حتى العام الماضي، أو ما يشكل نحو 12% من عدد السكان البالغ 3.6 ملايين نسمة، وحسب إحصائيات نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، عدد الإريتريين من طالبي اللجوء إلى أوروبا وصل إلى معدل 24.7% من عدد اللاجئين الفارين من الشرق الأوسط إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط، وهي النسبة الأعلى بالمقارنة مع عدد اللاجئين من الفارين من أي دولة أخرى.
ولن تتوقف عجلة الموت والعنف والاضطهاد والتعذيب، والاحتجاز والإخفاء القسري والاغتصاب في إريتريا، وموجات الهجرة منها، إلا عندما يوقن مرتكبو الجرائم بأنهم لن يفلتوا بعد الآن من العقاب، وأن المجتمع الدولي، ممثلاً بمجلس الأمن، جاد في محاسبة المسؤولين عنها.