قبل شهور قليلة من انتهاء ولايته الثانية يجتهد الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، لاكتساب صورة الناقد الجريء لقضايا حاول سابقاً التعامل معها برخاوة، كونها تمس الولايات المتحدة أو أحد حلفائها المقربين، لكنه اليوم يحاول أن يضع النقاط على الحروف، مثلما فعل في زيارته الرابعة والأخيرة لقطاع غزة، حين انتقد الحصار الإسرائيلي وطالب بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق أبناء القطاع، ومثلما فعل أمس بتوجيه انتقاد لاذع لمنظومة العدالة وإنفاذ القانون في الولايات المتحدة، وبعد حادثة مقتل خمسة من أفراد الشرطة في مدينة دالاس، وقبلها مقتل مواطنين اثنين من ذوي البشرة السوداء، في إطار فشل السلطات الأميركية في التعامل بشكل شامل مع استشراء ظاهرة التمييز العنصري مجدداً في البلاد.
بان كي مون يستطيع اليوم أن يتحدث بحرية أكبر، لأنه لم يعد مثقلاَ بحسابات إعادة انتخابه للأمانة العامة، ويجد نفسه معنياً بتسجيل مواقف تحسب له في سجله، عملاً بالمثل الشعبي العربي "يا رايح كثِّر ملايح"، ولذلك يبدو مفهوماً إقدامه على توجيه ضربة تحت الحزام للولايات المتحدة الأميركية، بمطالبة السلطات الأميركية بـ"إجراء تحقيق شامل ونزيه" في حادثتي مقتل رجلين من ذوي البشرة السوداء برصاص الشرطة، لأن هاتين الحادثتين، والحوادث المشابهة التي سبقتهما، "تؤكد مرَّة جديدة الحاجة إلى تعامل قانوني شامل مع التمييز العنصري، بما في ذلك الاختلافات العرقية..".
دعوة بان كي مون لن تتقبلها الإدارة الأميركية بارتياح، فإدارة أوباما لا تريد أن تسجل في صفحات التاريخ أن داء العنصرية، على خلفية عرقية، أطل برأسه من جديد في الولايات المتحدة في عهد أول رئيس من أصول أفريقية، ولن ينفع الرئيس أوباما الادعاء بأن الولايات المتحدة "ليست منقسمة إلى الحد الذي يراه البعض"، فالانقسام قائم بالفعل ويتعمق منذ سنوات، في صورة تذكِّر بالأوضاع في الولايات المتحدة قبل ستينيات القرن الماضي.
للإنصاف؛ العديد من المسؤولين في الأمم المتحدة لم يترددوا سابقاً في توجيه انتقادات شديدة للولايات المتحدة، وفضح انتهاكات حقوق الإنسان فيها، على سبيل المثال لا الحصر، حثَّ محقق الأمم المتحدة في شؤون التعذيب، خوان منديز، الولايات المتحدة على السماح له بـ"زيارة كل أماكن الاحتجاز في البلاد وإصلاح الاستخدام الواسع النطاق للحبس الانفرادي الذي يشمل عشرات الآلاف"، وأشار منديز في الثامن من آذار/مارس 2016، إلى إن طلبه لزيارة الولايات المتحدة "مازال معلقاً منذ 5 سنوات بسبب الاختصاصات من أجل دخول كل مراكز الاحتجاز".
للتذكير؛ منظمة "هيومن رايتس ووتش" أكدت في تقريرها العالمي للعام 2015 أن "على الحكومة والمسؤولين المحليين في الولايات المتحدة التصدي للتمييز العنصري وانتهاكات الشرطة في نظام العدالة الجنائية، التي أثارت تظاهرات واسعة النطاق العام الماضي..". وأضافت ماريا مكفرلاند سانشيز- مورينو، المديرة المشاركة لبرنامج الولايات المتحدة في "هيومن رايتس ووتش": "عكست الاحتجاجات التي عمت أرجاء الولايات المتحدة في عام 2014 الغضب المستحق من سنوات من التمييز العنصري في نظام العدالة ومن وحشية الشرطة. وعلى الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية العمل مع المجتمعات المحلية المهمشة لإصلاح النظام".
من الجدير بالذكر، يوجد في الولايات المُتحدة 2.37 مليون شخص في السجون؛ وهو أكبر عدد سجناء في العالم، ويتعرض 12 مليون شخص سنوياً للحبس في مراكز احتجاز. ووفقاً لتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، "يتغلغل التفاوت العنصري في كل أجزاء نظام العدالة الجنائية في الولايات المُتحدة. التفاوت في مُكافحة المُخدرات فاضح على نحو خاص. يتورط أصحاب البشرة البيضاء والأميركيون من أصل أفريقي في جرائم المخدرات بمُعدلات مُتقاربة، إلا أن الأميركيين من أصل أفريقي يُقبض عليهم ويُحاكمون ويُسجنون بمُعدلات أعلى كثيرا. إنهم يُمثلون 13% فقط من سُكان الولايات المُتحدة، ولكنهم يُشكلون 29% من المقبوض عليهم في قضايا المُخدرات. كما يُحبس الرجال السود بمعدل 6 أضعاف الرجال البيض. كما يتعرض المُتهمون الفقراء لقضاء فترات احتجاز مطولة وغير ضرورية لعدم قدرتهم على دفع الكفالة".
وأثارت مُمارسات الولايات والإدارات البلدية لزيادة الدخل على حساب المُتهمين محدودي الدخل اهتماما مُتزايداً، بعد تقرير وزارة العدل بشأن مدينة فيرغسون بولاية ميزوري، التي شهدت عام 2014 احتجاجات واسعة على خلفية مقتل مايكل براون على يد ضابط شرطة، حيث وصف التقرير نظام القضاء المحلي بأنه "ليس سوى آلة تنمية للدخل تستهدف الأميركيين من أصل أفريقي، والشرطة هي (وكالة التحصيل) التابعة لها..".
صورة مظلمة لطالما حاول الإعلام الأميركي إخفاءها وتزيينها، والاستمرار في خطاب غطرسة يدعي بأن الولايات المتحدة رائدة في مجال الحريات العامة والفردية، ورافعة راياتها في العالم.. ادعاءات تسقط بالضربة القاضية، بينما توضع الصورة الحقيقية تحت المجهر الدولي.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)