زعم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأن زيارته التاريخية لكوبا، في آذار/ مارس الماضي، هدفها "دفن آخر بقايا الحرب الباردة في الأميركيتين"، وأضاف: "مستقبل كوبا لن تقرره الولايات المتحدة ولا أي بلد أخر"…كلمات لقيت استحساناً لدى مستمعيه، وبنى البعض عليها بأن أوباما رجل سلام، رغم إدراكهم أن واشنطن لن تخطو خطوات بالسرعة الكافية لتطبيع العلاقات مع كوبا.
قبل ذلك بسبع سنوات تقريباً أطلق أوباما ما أصطلح على تسميته "مشروع إنهاء الحرب الباردة.. عالم بلا أسلحة نووية"، وجاءت تصريحاته هذه بعد محادثات أجراها في لندن مع نظيره الروسي (آنذاك)، ديمتري ميدفيدف، في نيسان/ أبريل 2009، تمحورت حول خفض ترسانة الأسلحة النووية لبلديهما. وفي 17 أيلول/ سبتمبر من العام ذاته أعلن أوباما عن تعليق نشر الدرع الصاروخية في بولندا والتشيك، واعتبر القرار حينها بمثابة تغيير استراتيجي في السياسة الخارجية الأميركية، يحول دون عودة أجواء "الحرب البادرة"، التي لاحت في الأفق جراء غلو إدارة بوش الابن في انتهاج سياسات أحادية، من شأنها أن تعكر العلاقات مع روسيا.
قيل حينها إن قرار أوباما، وحلف شمال الأطلسي، لا يعني التراجع عن مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا، بل يعود بالأساس إلى مراجعة للمشروع وفاعليته، فقد أكد وزير الدفاع الأميركي الأسبق،روبرت غيتس، في مقاله بصحيفة "نيويورك تايمز" أن برنامج الدفاع الصاروخي البديل سيعتمد على سفن مزودة بصواريخ اعتراضية توجد بصورة دائمة في جنوب البحر المتوسط وبحر الشمال في مرحلة أولى، على أن يتم في مرحلة ثانية دراسة إمكانية نشر أنظمة دفاعية أرضية، بيّْد أن إدارة أوباما بقيت تتلاعب على حبال الكلمات، إلى أن جاءت وقائع القمة الأخيرة لحلف (الناتو) لتكشف زيف الإدعاءات الأميركية والأطلسية.
وفي مواجهة ذلك دعت روسيا إلى "العمل الجماعي في تقييم مخاطر انتشار الصواريخ في العالم، واقترحت إنشاء منظومة للدفاع المضاد للصواريخ تحمي الجميع، وتعزز الثقة بين الطرفين، غير أن واشنطن ودول (الناتو) رفضت مناقشة العرض الروسي. ووفقاً لما جاء على لسان نائب وزير الدفاع الروسي، أناتولي انطونوف، بادرت موسكو مراراً إلى دعوة واشنطن لإعادة النظر في خططها، إذ قال أنطونوف: "لقد عرضنا عليهم التعاون، وأوجدنا سبلاً لحل الموقف، لكننا لم نتمكن من إقناعهم بمواصلة الحوار بشأن هذه القضية، أعتقد أن الوقت ليس هو الأنسب بالنسبة لهم لإجراء مشاورات"، وأضاف: "من الخطير للغاية أن تحمى دولة أمنها على حساب أمن الدول الأخرى"، ناهيك عن عشرات التصريحات الروسية التي حذَّرت من أن نشر الدرع الصاروخي في رومانيا وبولندا.
في سياق متصل، يشار إلى أن تصريحات قادة الدول الأوروبية المنضوية في إطار حلف (الناتو) كانت تشّدد دائماً على الحوار والتعاون مع روسيا، لكنها لم تثبت مصداقيتها على المحك، وهو ما فضحته القرارات الأخيرة التي خرجت بها القمة الأخيرة لقادة الحلف في وارسو.
النقاشات في قمة (الناتو) والقرارات التي صدرت عنه كانت على حد وصف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، "تكاد تبدو مثل صرخات إعلان حرب على روسيا.."، حيث أعلن قادة الحلف عن نشر قوات إضافية، قوامها أربعة كتائب، في دول البلطيق وبولندا، وأكد أمين عام الحلف أن ينس ستولتنبرغ، أن منظومة الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا دخلت المرحلة الأولى من الجاهزية.
من الناحية العسكرية المجردة ليس من شأن ذلك أن يغير شيئاً في ميزان القوى، لكنه بالتأكيد ينم عن روح عدوانية، وستكون له نتائج سلبية كبيرة على المدى الطويل أوروبياً، تعيد للأذهان أجواء "الحرب الباردة"، وسباق التسلح والإنفاق العسكري على حساب مستلزمات التنمية المستدامة والشاملة.
فخ ستقع فيه واشنطن وحلفائها قبل غيرها، بسعيهم إلى تسميم العلاقات الدولية، ودفع العالم مرَّة ثانية نحو حالة من التوتر وعدم الاستقرار، وخطر انفجار حروب ونزاعات مسلحة، ولن يكون حلف (الناتو) في أي حال من الأحوال رابحاً من وراء تهديد السلم والأمن العالميين، فالكل يخسر في معادلة الحرب، ويربح الجميع في معادلة السلم والأمن والتعاون المشترك واحترام الحقوق.
(المقال يعبر عن رأي كاتبه)