ترزح الحالة الفلسطينية منذ سنوات عديدة في دوامة فشل جهود المصالحة الداخلية، وزاد من وطأة الانقسام السياسي والكياني الفلسطيني عدم تجديد شرعية مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية عبر الاستجابة للاستحقاقات الانتخابية، حيث لم تنفذ العديد من الاتفاقات والإعلانات السياسية التي وقعت عليها الفصائل والقوى الفلسطينية، في القاهرة ومكة المكرمة والدوحة ورام الله وغزة وغيرها، والتي نصت على إجراء الانتخابات.
ويعزى الفشل أساساً إلى الخلافات المحتدمة بين حركتي "فتح" و"حماس"، وإخفاق الفصائل والقوى الفلسطينية في الوقوف مجتمعة على أرضية برنامج وطني مشترك، مما انعكس على مكانة القضية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لاسيما في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها المنطقة على ضوء الصراعات الدموية والأزمات الملتهبة، وتراجع الاهتمام العالمي بالصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي.
آخر انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني جرت في ثمانينيات القرن الماضي، وجرت آخر انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية عام 2005 والانتخابات التشريعية عام 2006، بينما أجريت آخر انتخابات على المستوى المحلي عام 2012، وأجريت فقط في الضفة الغربية دون قطاع غزة، بفعل رفض حركة "حماس" المشاركة فيها، وعللت رفضها (حينذاك) بأنه يجب أعطاء الأولوية للانتخابات الرئاسية والتشريعية، في إطار سلة متكاملة يتفق من خلالها على حل مجموع القضايا الخلافية بين حركتي "فتح" و"حماس"، ومنها أعادة بناء الأجهزة الأمنية، واستيعاب الموظفين الذين التحقوا بإدارات السلطة في قطاع غزة بعد عام 2007، أي الموظفين الذين عينتهم حكومة "حماس" إثر سيطرتها على القطاع، والإفراج عن المعتقلين لدى الجانبين، وكانت هذه النقاط من الأسباب الرئيسية لفشل وثيقة الوفاق الوطني 2011، واتفاق المصالحة الموقع بينهما في نيسان (أبريل) 2014، واتفاقات عديدة قبل ذلك.
بالنظر إلى التجارب السابقة تكتسب موافقة حركة "حماس" على إجراء الانتخابات المحلية، في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، خطوة مهمة على طريق تجديد شرعية المؤسسات الفلسطينية عبر صناديق الاقتراع، وتفكيك المعضلات التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني، لكن الانتخابات لا تمثل بحد ذاتها حلاً ومخرجاً، إلا إذا مثَّلت محل توافق وطني على ضمان أن تكون شفافة، وأن يلتزم الجميع بنتائجها، والدفاع عنها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية التي ستحاول إعاقتها، وأن ترتبط بجدول زمني محدد لانجاز باقي محطات الاستحقاقات الانتخابية على صعيد منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.
بالعودة إلى التجربة الفلسطينية شكَّلت الانتخابات التشريعية عام 2006 مقدمة لانقسام سياسي وكياني هو الأخطر في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، بخروج الخلافات عن نطاق السيطرة، واندلاع اقتتال داخلي في قطاع غزة، وقيام ونشوب صراع على السلطة بين "حكومة حماس" في غزة وحكومة السلطة في رام الله، وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتغول التأثيرات الإقليمية والدولية والغربية، الإسرائيلية والأميركية على وجه الخصوص، على الحالة الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى دوران الفلسطينيين في حلقة مفرغة من المفاوضات العبثية، وعدم المقدرة على توحيد طاقاتهم وتنظيم صفوفهم لانتزاع حقوقهم الوطنية الثابتة والمشروعة.
تجربة تجعل من إجراء الانتخابات المحلية المقبلة أقرب ما يكون إلى اختبار إرادات لكل الفصائل والقوى الفلسطينية، لاسيما حركتي "فتح" و"حماس"، اللتين تتحملان مسؤولية خاصة في إنجاح هذه الانتخابات، والمضي قدماً بعدها لانجاز الاستحقاقات الانتخابية الأخرى، والوصول إلى مصالحة وطنية شاملة تضع حداً نهائياً لسياسي والكياني الداخلي الفلسطيني.