تعد اليابان من البلدان الآمنة بنسبة كبيرة، بالقياس إلى معدلات الجريمة في العالم، ونوعية الجرائم المرتكبة وفقاً لتصنيفها، واستطاعت السلطات اليابانية منذ عام 2002 تخفيض عدد الجرائم المرتكبة بما يقارب 50%، بفضل تعاون آلاف اللجان الشعبية مع الأجهزة الأمنية، علماً بأن عدد الجرائم المسجلة في اليابان بلغ رقماً قياسياً في ذلك العام، أكثر من مليون و350 ألف جريمة من مختلف الأنواع، غالبيتها تصنف كـ"جنح" (جرائم خفيفة) أو مخالفات.
إلا أن النجاح الذي تحقق لم يمنع من بروز ظواهر سلبية على الهامش، تعدُّ مقلقة وغريبة على المجتمع الياباني، الأولى استمرار وجود ظاهرة جرائم الشوارع، والثانية ازدياد أعداد مرتكبي الجرائم والجنح بين المسنين. وفي الجريمة المروعة التي ارتكبت فجر يوم الثلاثاء، وراح ضحيتها 19 قتيلاً و25 جريحاً من نزلاء منشأة تسوكوي يامايوري- إن التي تعنى بالمرضى الذين يعانون من إعاقة بالغة، تبرز ظاهرة جديدة في اليابان يخشى من أن تكون لها ارتدادات سلبية على تصنيف اليابان من حيث مستوى الأمان، فالشعب الياباني معروف عنه الود، ومن أسباب نجاح السياحة في اليابان، وتحقيقها تقدماً كبيراً، شعور السائح بالأمان الشخصي.
قبل تسليط الضوء على الجريمة المروعة بحق عدد من ذوي الإعاقات البالغة، لابد من الإشارة إلى أن ارتفاع عدد مرتكبي الجنح من المسنين ظاهرة تستحق التوقف عندها، لاسيما في مجتمع صناعي متقدم مثل المجتمع الياباني، فوفقاً لتقرير نشرته صحيفة "إندبندنت" البريطانية، عام 2013، كشفت الشرطة اليابانية عن أن انتشار الجريمة بين المواطنين المسنين فاق نسبة انتشارها لدى الفئات العمرية الأخرى، حيث تضاعفت نسبة الجرائم التي يرتكبها مسنون في الفترة بين 2003 و 2013، ووصلت نسبة المسنين الذين تعرضوا للتحقيقات الجنائية عام 2011 إلى 16% من مجمل الحالات الجنائية التي تمَّ التحقيق فيها. ويعود الارتفاع في نسبة جرائم وجنح المسنين بدرجة رئيسة إلى الظروف الاقتصادية السيئة، والتي يفاقمها التقليص الكبير في الخدمات الاجتماعية.
ولفتت الصحيفة في تقريرها إلى أن هذه الظاهرة، ربطاً مع انكماش عدد السكان في اليابان، شكَّلت موضع قلق على مدى السنوات الماضية، وستظل كذلك في السنوات القادمة، فنسبة السكان المسنين فوق 65 عاماً تصل حالياً في اليابان إلى أكثر من ربع السكان. ومن اللافت أيضاً إشارة معدي التقرير إلى احتمال أن يرتكب بعض المسنين الجنح الخفيفة؛ لكسر مشاعر الوحدة والعزلة التي يعيشونها. وهو ما يفسره المتخصص في علم الجريمة في جامعة "ريكوكو" البروفيسور كويتشي حاماي، بالقول: "يستطيع المجرمون تكوين صداقات في السجن، ويجدون الغذاء والعناية الجيدين، بينما في الخارج قد يعانون من عدم وجود العائلة والدعم المادي".
تتصدر اليابان دول العالم في معدلات الشيخوخة، فخمس اليابانيين تعدوا سن الستين، وأكثر من 2 مليون شخص تجاوزوا سن الثمانين، وتميز المجتمع الياباني على الدوام بتقدير المسنين، باعتبارهم "ثروة للجميع"، ويعيش أكثر من 90% منهم في منازل خاصة أو مع ذويهم ويتمتعون برعايتهم ويحظون بمعونات حكومية. غير أن النظرة إليهم آخذة بالتبدل في القيم الاجتماعية اليابانية على ما يبدو، فالرعاية الطبية الخاصة التي يحتاجونها باتت تشكل ضغطاً على الموازنة العامة للدولة، ويتزايد هذا الضغط مع الارتفاع المضطرد لنسبة المسنين، بينما تتهاوى معدلات المواليد الجدد.
وبحسب تصريح لمتحدثة باسم الحكومة اليابانية فإن "المنافع تذهب للأجيال المسنة، بينما تقع الأعباء على الأجيال الشابة"، علماً بأن الحكومة اليابانية تنفق حالياً ربع الموازنة العامة على المسنين. ولمواجهة هذه الظاهرة وضعت الحكومة خيارات عدة من بينها زيارة ضريبة الاستهلاك بنسبة 5% ورفع سن التقاعد إلى السبعين عاماً. وبالنظر إلى أن رفع سن التقاعد من شأنه الحد من فرص العمل المتاحة فإنه يقابل بمشاعر عدم رضا لدى الفئات العمرية الشابة.
من هنا يمكن تلمّس خطورة الجريمة التي أقدم عليها شاب ياباني، كان موظفاً سابقاً في المركز الذي ارتكب فيه جريمته في ساغاميهارا، غرب طوكيو، فقد ذكرت صحيفة "أساهي شيمبون" إن الشرطة نقلت عن المشتبه به قوله: "أريد التخلص من المعاقين في هذا العالم". وقالت تقارير أخرى إنه يحمل ضغينة بعدما طرد من وظيفته في المنشأة.. سبب لا يمكن قبوله كمبرر لجريمة فظيعة، لكنه يؤشر إلى الخشية من تبدل النظرة المجتمعية، لاسيما عند صغار السن، نحو المسنين، وربما ينطبق ذلك في شكل أو آخر على باقي المجتمعات المتقدمة التي تعاني من مشكلة زيادة الشيخوخة.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)