بغداد — سبوتنيك
الخروج هرباً والوصول إلى مخيم النازحين
أمس وصلنا أنا وعائلتي إلى مخيم النازحين، هي المرة الأولى التي ندخل فيها المخيم، فلم نكن نعلم أننا في يوم من الأيام سنمضي الشتاء في خيمة تجلدها الأمطار من كل صوب، وتهدد الرياح بقاءها على الأرض.
استلمت الخيمة من رجل الإغاثة بعد الظهر، كان أطفالي قد تجمدوا من البرد، علما إن درجات الحرارة لم تصل إلى ذروة برودتها، فالشمس ساطعة ولم يجن الليل بعد، لكن البرد قد نال منهم فهم لم يتعودوا على هذه الأجواء القطبية القاسية.
اضطررت لنصب الخيمة وحدي، والمكان الذي تم تخصيصه لي كان متعرجا وموحلا…حاولت معالجته بالمعول دون جدوى فيبدو أن السنين قد عملت عملها ونهبت من جلدي وقواي الكثير، فقد كنت في مطلع شبابي عاملا قويا وجلدا قبل أن ندخل حياة الراحة والترف والجلوس على المكاتب…
نظرت إلى عمال الإغاثة نظرة انكسار لعلهم يبدون نوعا من المساعدة في نصب الخيمة، لكن يبدوا أن المواقف المماثلة التي صادفتهم خلال فترة تواجدهم في المخيم قد جعلتهم أكثر قسوة ومكنتهم من تجاهل نظراتي المتوسلة بطلب المساعدة…
ثم أتى أحدهم إلي جالبا بعض المواد الغذائية وبطانيتين فقط، فأخبرته أننا أربعة أفراد واليوم هو الأول لنا في المخيم ونحن بحاجة لأغطية أكثر…
نظر إلي وهو يرمي الأغراض بحدة ولسان حاله يقول "أنت بطران"..!!
أكملت نصب الخيمة بشكل غير متقن، فسقفها كان يصدر صوتا يتناغم مع هبوب الريح الجافة والتي لها القدرة على سرقة ومضات الدفء من أدنى نقطة في جوف الإنسان.
كنا جوعى ونعاني البرد، وعلى الرغم من نصب الخيمة إلا أن أرضيتها كانت لا تختلف كثيرا عن الشارع الطيني القريب منا…
فتشنا في المواد التي جلبها رجل الإغاثة، كانت عبارة عن حفنات من رز وبعض الزيت وكيس من الفاصوليا إضافة إلى كيس سكر وآخر للشاي وكيس صغير من الملح.
نظرت إلى وجوه الأطفال وهم يرتجفون كالفئران، فداهمتني عبر بكاء خنقتها بما تبقى لي من صبر كي لا تتفجر؛ وخنقتني حتى تجمد الدمع في مقلتي، فلو أطلقت تلك الصرخة لأسمعت كل من في المخيم، مع علمي أن ثمة مليون صرخة أطلقت قبلي لا زالت آثارها ماكثة في أذن المكان…!!
ذهبت إلى عامل الإغاثة عله يغيثني بمدفأة للطبخ وأملا في تنشيف المكان الموحل، لكن فاجأني بأنه لم يعد لديهم شيئا لي فقد تم توزيع كل المدافئ، ثم أن المدفأة لا تنفعني على حد قوله لأن النفط قد نفذ أيضا.
أغلفت الأبواب في وجهي؛ وأنا أفكر كيف سنواجه الليلة ببطانيتين دون أي فرش؟ وحتى لو توفر الفرش كيف سنضعه فوق الوحل…!
فجأة…وأنا أعبث بحواف الخيمة هربا من رؤية منظر الأطفال المبكي، مر مجموعة من الشبان يتكلمون لهجة أهل الموصل، التي كانت ترن في أذني كموسيقى حزينة، نظروا إلى حالتي المزرية وحال الخيمة التي اختلف نظامها وطريقة نصبها عن باقي الخيام فمالوا نحوي.
— هل أنت بحاجة لمساعدة؟
— نظرت إليهم وأنا أحاول حبس بعض الدموع التي هربت من مقلتي على حين غفلة وقلت:
— لقد وصلنا الآن، كنا نسكن في المدينة لكن لا أدري كيف الظروف ساقتنا إلى هنا ولا يوجد لدينا شيء.
نظر أحدهم نحوي وقال هل يمكننا دخول الخيمة؟
— نعم ممكن فهي مشرعة الأبواب طمعا في أن يسهم الهواء في تنشيف أرضيتها…
— ألم يعطوكم بطانيات وفرش؟
— اثنتين فقط..
— ومدفأة؟
— لا لم يعطونا قالوا إنها نفذت…
خرج الشاب وهمس لزملائه وانطلقوا مسرعين، لحظات وإذا بجيش من الشبان الأشداء يغطون رؤوسهم ووجهوهم ويلبسون ملابس كالتي يرتديها متسلقو الجبال، وكان بأيديهم معاول، ثم خرج الجيران من الخيم المجاورة على صوت الجلبة، وطلبوا مني إخراج العائلة من (الثلاجة) عفوا أقصد من الخيمة، وهرعت زوجة جارنا بأخذهم إلى خيمتهم المحصنة بالتراب على جانبيها بعد أن أوشكوا على التجمد من البرد، وبدأ بعض الشبان بالحفر داخل الخيمة وإخراج الوحل منها، بينما دعاني جاري الذي كان يلف نفسه ببطانية —ظهر منها رأس النمر شاهرا أنيابه الحادة نحوي وكأنه يهددني- إلى خيمته وقد أعدوا لنا شايا وبعض الطعام، وحين دخولي وجدت عائلتي وأولادي قد اضمحلوا من البرد والخجل، حاولت أن أبث فيهم الأمل، فقلت مخاطبا جاري الجديد ربما معاناتنا ستكون في اليوم الأول فقط، وبعد ذلك ستكون الأمور على ما يرام…!!
قال: اطمأن فالشباب يعرفون كيف يصلحون خيمتكم فهم يجوبون المخيم يقدمون المساعدة للجميع وهم على هذا الحال منذ أتينا إلى هنا..!!
شعرت بالراحة فما أجمل أن يكون للمرء عزوة في وقت الشدة…
خرجت من الخيمة وإذا بخيمتنا قد تغيرت تماما فأرضيتها صارت من التراب الجاف بعد أن أزال الشباب كل الأوحال وأعادوا نصبها بطريقة أنيقة، ثم تفاجأت من كثرة المواد والأغراض الضرورية تملأ جانب الخيمة، فقد قام الشباب بجولة في المخيم وجمعوا ما هو فائض عن الحاجة وجلبوا مدفأة جديدة ونفطا ومواد غذائية وفرش لأرضية الخيمة وثلاث بطانيات أخرى، وراح بعضهم يعزز جوانب الخيمة بالتراب كي تقاوم الريح العاتية…
شكرتهم على ذلك وقبل أن ندخل خيمتنا الجديدة…صحوت على آذان الفجر فنهضت وإذا أنا بفراشي الوفير والغرفة مليئة بالدفيء والهدوء حمدت الله كثيرا، ثم نهضت ومررت على الأطفال وإذا بهم نائمون بعمق، عندها علمت أن ما يقاسيه النازحون هو أكبر بكثير مما نعتقد ونشاهد على التلفاز…
صليت الفجر والدموع تملأ عيني فلم أعد بحاجة لحبسها فانطلقت مدرارا وسط دعائي لكل من ترك منزله بالعودة الميمونة قريبا إن شاء الله…