هذا هو حال الصراع بين أردوغان وممثلين أوروبيين بالفعل، فالرجل يطلق التصريحات النارية، ويستعدي ويستدعي رجال أوروبا، ويحرص على الرد على كل صغيرة وكبيرة، سواء كانت موقفاً أو كلمة أو خطاب، وفي المقابل، يبخل الأوروبيون بالمواقف، ولا يهتمون إلا بإطلاق تصريحات قصيرة، تحمل الكثير من الاستفزاز للرجل، الذي يهرع إلى "الميكروفون" للرد بشكل لاذع.
ولعل الأزمة الأخيرة بين أردوغان وألمانيا، كانت كاشفة جدا لحالة التحفز لدى الرئيس التركي، في مواجهة حالة من برود الأعصاب تتعامل بها برلين وأصدقائها في الاتحاد الأوروبي، فمن ناحية نجد رفضا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتوقف عن استخدام تعابير مثل النازية أو الفاشية، بينما يصفه الأوروبيون بأنه ديكتاتور.
ولكن الحرب الكلامية لا تتوقف عند حدود معينة بالنسبة لتركيا، أي لا يمنح الأتراك أنفسهم مساحة للتراجع أو المراجعة، فالاندفاع سمة قديمة لدى العثمانيين، وأردوغان دلل على ذلك عندما ألمح إلى أن العلاقات مع أوروبا قد تتغير بعد الاستفتاء المزمع عقده في أبريل/ نيسان القادم، كما أعلن أنه سيواصل استخدام تعابير مثل "النازية" و"الفاشية" للإشارة لمسؤولين أوروبيين يعتبرونه ديكتاتورا.
التصريحات التي يصر عليها الرئيس التركي، تأتي في نفس الوقت الذي تشهد فيه العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي توترا شديدا في الأسابيع الماضية، بعد إلغاء عدد من الدول الأوروبية تجمعات انتخابية مؤيدة لأردوغان، خصوصا في ألمانيا وهولندا، تدعم الاستفتاء الذي تنظمه تركيا في 16 أبريل/ نيسان المقبل، لتوسيع سلطات الرئيس.
الرد الفوري – المتسرع – كان اتهام أردوغان للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل باللجوء إلى ممارسات "نازية"، ما أثار استنكار ألمانيا، ما دفع رئيسها الجديد فرانك فالتر شتاينماير، لمطالبة أردوغان بالتوقف عن "المقارنات المشينة"، ولكن أردوغان واصل انتقاده لميركل، بدعوى أنها تساعد هولندا في النزاع الذي نشب بينها وبين تركيا مؤخرا، مصراً على أنها تتبع "النهج النازي".
المتابع الجيد للتحركات الدبلوماسية والسياسية التركية، يجد أن الرئيس رجب طيب أردوغان يجيد عقد التحالفات الدولية، ويجيد أيضاً تحديد المكاسب واقتناصها، ولكنه في الوقت نفسه يجيد إضاعة الفرص وإهدار العلاقات، بجانب أن ردوده في المواقف التي تستدعي الدبلوماسية أو الهدوء دائما حادة، وبالتالي يعد الصلح فيها بلا تأثير حقيقي.
ولكن المتابع عن قرب، سيجد أن الاستفزاز الأوروبي يستحق بالفعل أن يكون هناك رد حقيقي وصادم، فالسنوات الأخيرة شهدت انكشافا للموقف الغربي — ولاسيما الأوروبي — من استمرار أردوغان في قيادة الدولة التركية، واتجاهه لفرض مشروعه الذي يذهب بتركيا بعيدا عن الرؤية الغربية، ما جعل السلوك الغربي عدوانياً تجاه أردوغان شخصيا، متجاوزا الاعتبارات المقيدة للخطاب الرسمي.
أردوغان نفسه يرى أن التجاوزات الأوروبية تحررت — بشكل جزئي — من التحفظ الدبلوماسي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، وفي الأزمة الدبلوماسية الأوروبية التركية الحالية الناجمة عن السياسات الأوروبية تجاه تعديلات الدستور التركي، المزمع الاستفتاء عليها في 16 أبريل/ نيسان القادم، وأصبح الهجوم ضده مباشرة، بألفاظ يرفضها أي حاكم يحترم نفسه.
والأهم من ذلك، أن ألمانيا وحدها بها ما يزيد عن 4 ملايين تركي، بخلاف الأعداد الكبيرة جدا للجالية التركية في هولندا، ومع ذلك تتصدر الدولتان الخلاف التركي – الأوروبي، حيث منعت ألمانيا تجمعات تركية مؤيدة للتعديلات الدستورية المقترحة، بينما سمحت لفعاليات تركية أخرى معارضة، وهو ما اعتبره أردوغان تدخلاً في شؤون بلاده، ودعماً للمعارضة في مواجهة حكومته.
الأمر نفسه فعلته كل من النمسا وسويسرا، اللتان حظرتا تجمعات مؤيدة للتعديلات الدستورية، ودخلت الدانمارك على هذا الخط، قبل أن تنتهج هولندا نفس النهج، بل تجاوزت الحدود بمنع هبوط طائرة وزير الخارجية التركي الذي كان ينوي المشاركة في فعاليات مؤيدة للتعديلات، وهو ما رد عليه أردوغان بشكل يتناسب مع شخصيته، العصبية والحادة بعض الشيء.
لذلك فإن الواقع يقول، إن الإجراءات الأوروبية لم تخل من تدخل في الشؤون التركية الداخلية، وخصوصا إجراءاتها التدخلية ضد التعديلات الدستورية، بخلاف التصعيد الدبلوماسي المتعمد، الذي لم يخل بدوره من دوافع سياسية، تتعلق بالخوف الأوروبي من الصعود المتتابع لليمين في أوروبا، واحتمالات فوز أحزاب اليمين في الانتخابات المتتالية التي تشهدها عدة دول أوروبية خلال 2017.
لذلك يمكن القول دون مواربة، إن أوروبا داست على ذيل قط شرس ومتحفز، في ضربة استباقية، قبل أن يتعاظم نفوذه في دولها.
(المقال يعبر عن رأي كاتبه)