لكن ومع بروز العديد من الأزمات في المنطقة وتصاعد الحركات المتطرفة، لا سيما في العراق ومصر وسوريا، تطرح أسئلة عديدة تتعلق بالوجود المسيحي في لبنان.
واليوم قد تكون أوضاع مسيحيي لبنان الأفضل بين عموم مسيحيي الشرق، الذين يواجهون الاضطهاد على يد بعض التنظيمات المتطرفة، ما دفع العديد منهم للهجرة الى أقاصي البلاد بحثا عن الأمن والأمان، لا سيما بالنسبة إلى مسيحيي العراق.
في لبنان، لا توجد إحصاءات دقيقة وعلمية عن عدد سكانه منذ عشرات العقود، وتحديداً منذ العام 1932، ففي بلد مثل لبنان توجد فيه أكثر من 18 طائفة، لطالما تجنب المسؤولون فيه منذ ما قبل الاستقلال الغوص في تفاصيل الإحصاءات السكانية ومعرفة أحجام الطوائف فيه.
إلا أنه وفقاً لمدير "ستاتيستيكس ليبانون" ربيع الهبر، فيؤكد لـ"سبوتنيك"، أنه وفقاً لدراسة مستقلة أجريت في العام 2016، فإن % 57،6 من عدد سكان لبنان هم من المسلمين وينقسمون مناصفة ما بين "سنة" و"شيعة"، وأن 36،8 % من عدد سكان لبنان هم من المسيحيين بحيث أن الطائفة المارونية تبقى الأكبر ما بين الطوائف المسيحية المتعددة في لبنان.
ولكن على الرغم من ذلك فإن الدستور اللبناني ينص على أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة "المسيحية"، كما أن اتفاق الطائف الذي أبرم عام 1989 وأنهى الحرب الأهلية اللبنانية كرس مناصفة التمثيل داخل المجلس النيابي ما بين المسلمين والمسيحيين.
أمين لجنة التواصل لـ"مجلس الأساقفة والبطاركة الكاثوليك" في لبنان الأب يوسف مؤنس، قال لـ"سبوتنيك"، إنه "لا يجب وضع المسيحيين إلا بإطار الفكر اللاهوتي المسيحي الإنجيلي، لهذا السبب لا يوجد خوف على أنهم يقتلون المسيحيين ويهجرونهم ويدمرون كنائسهم، حماية مسيحيي الشرق كانت خطأ من السياسة الأجنبية، هجروا مسيحيي العراق، ونيجيريا مع بوكو حرام، هجروا مسيحيي الموصل والسودان، لمنافع بترو دولار، ولم يدركوا خطورة الأوضاع التي تتصاعد من عمق العقل الديني الذي يضرب الشرق، أسيء جداً إلى مسيحيي سوريا في القامشلي مثلاً، وأسيء إلى مسيحيي العراق ومصر، وهناك الموقف الروسي الذي أدرك الخطر وموقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعديد من المفكرين السياسيين والفلاسفة الذين نبهوا لهذا الخطر".
أما بالنسبة إلى مسيحيي لبنان فيؤكد الأب مونس على أن "أوضاعهم سليمة، المسلمون يريدون التعايش، والمسيحيون يريدون أن يكونوا مع المسلمين ليكون لبنان وطن الرسالة كما قال قداسة البابا، ووجود رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري وكل التفكير الإسلامي إن كان شيعي أو سني هو تفكير بأن يبقى لبنان وطن الجميع، معظم المسيحيين في الجبل عادوا إلى منازلهم، المسيحيين في بيروت يعيشون براحة اليوم، لا يوجد أي خوف بل هناك تساكن، معظم مسيحيي عكار موجودين وكذلك في الجنوب والبقاع".
وحول ما إذا كان لديه مخاوف من إمكانية هجرة المسيحيين لأرضهم، يجيب الأب مونس، "الهجرة لا تخيفني، لأن خلال الحرب لولا المهاجرين لما كنا عشنا، والاغتراب أعطانا كمية من المثقفين والعلماء والباحثين والجامعيين، وأعطانا شيء من التغيير بحياتنا لكي نخرج من ضيق حياتنا وعقلنا وقلبنا، بالهجرة هناك حضور مسيحي ولبناني قوي في العالم، نحن اليوم لدينا مليونين ونصف سوري وفلسطيني نستضيفهم مثلما إستضافنا الناس في الخارج أيام الحرب الأهلية، لذلك الهجرة لا تخيف، ولكن الذي يخيفني هو فك ارتباط المسيحيين مع لبنان، من هنا يقع دور وزارة الاغتراب".
وعن وجود مخططات لإجبار مسيحي الشرق على ترك أوطانهم، يقول الأب مؤنس "من المؤكد أن هناك استراتيجية لترحيل المسيحيين من أوطانهم، ما حدث في العريش في مصر خطير جداً، كذلك في العراق أجروا عملية تنظيف في نينوى وسهل بابل وبالكنائس العراقية في الموصل، بينما في لبنان تهجرنا وتركنا الجبل وتركنا مناطقنا المسيحية ولكن رجعنا إلى كل تلك المناطق بعد الزيارة التي قام بها البطرك صفير إلى الشوف، وبنينا المصالحة واقتنعنا أنه في لبنان لا يمكن العيش إلا مع بعضنا البعض".
وتابع قائلاً:"الحركات الأصولية والفكر التكفيري والإرهابي الذي ضرب في مصر يخيف أكثر من الأعمال الإرهابية، بالعالم العربي هناك أفكار وعقل إرهابي وهذا هو الخطر، من هنا مواقف المؤسسات الدينية الكبرى، الفاتيكان، الأزهر، دار الإفتاء، مجمع الأساقفة، النجف، من الضروري وضع عملية تنوير وعملية إعادة لبنيان الإنسان على الحب والاحترام".
ويؤكد مؤنس أن الكنيسة اللبنانية على تواصل مع مسيحيي المشرق وأنه على تواصل مباشر مع مسيحيي مصر، وغير المسيحيين من الأحرار، خاتما حديثه بتشديده على ضرورة" تغيير العقل، وأن نقبل أن لبنان هو رسالة، وأن نغير الخطاب الديني، وهنا في لبنان مفتي الجمهورية والبطريرك وغيرهم من رجال الدين خطابهم متغير كلياً، يجب التركيز في وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على قبول الانسان مهما كان مختلفاً ".
وقد استعرضت "سبوتنيك" آراء عدد من المواطنين المسيحيين في لبنان حول ما إذا كان لديهم هواجس أو مخاوف معينة نتيجة تنامي بروز بعض الحركات المتطرفة في المنطقة، حيث أكدت رنا الأشقر "أن المسيحيين في الشرق يشعرون بخوف دائم يهدد وجودهم بسبب الحركات الدينية المتزمتة الداعية لقيام خلافة إسلامية، وما يجري من انفجارات في مصر والعراق يعزز هذا الخوف، خاصة ان تنظيم داعش لا يوفر فرصة لتهديد المسيحيين"، أما بالنسبة الى لبنان فتقول رنا " أن لبنان بلد صغير فيه نسبة مسيحيين لا يستهان بها مقارنة بمسيحيي الشرق، ورغم كل الصعوبات والتهديدات التي يتعرض لها مسيحيو الشرق، يبقى مسيحيو لبنان بمنأى عن الخطر بفضل السياسة التي تعتمدها قيادته"، كما تؤكد على أن مسيحيي لبنان متمسكون بأرضهم، وأنهم يستمدون قوتهم من المميزات الحاصلين عليها في الدولة، "فهم في مراكز الصدارة كموقع رئاسة الجمهورية ومراكز مهمة في الوزارات، لا يتعرضون لاضطهادات ويعيشون بسلام ويتمسكون بارضهم وبحقوقهم وهم من الفئات القوية في السلطة".
أما بالنسبة إلى جانو بركات، فهي لا تخاف على المسيحيين في لبنان بقدر ما تخاف على لبنان برمته، وتقول إن "لبنان وجوده مرتبط إرتباطا مباشرا بالمسيحيين، واصفة مسيحيي لبنان (بأم الصبي)، فهم الذين أسسوا هذا البلد، لكنهم أخطأوا كثيرا عندما لم يأسسوا لنظام علماني فيه، يحميهم من أنفسهم ومن غيرهم".
وتؤكد "جانو" على أنها لا تخاف من داعش وأخواتها وأنها تؤمن إيمانا مطلقا أن مسيحيي لبنان يعرفون جيدا كيف يدافعون عن وجودهم، لافتة الى أنه حين ترسم سياسة لتهجير مسيحيي لبنان فإن الموضوع يصبح لا يتعلق بالمسيحيين بقدر ما يكون مخططا لتدمير لبنان.
في المقابل يرفض مروان خوري تمييز وضع المسيحيين سواء في لبنان أو العالم العربي عن سائر الطوائف الأخرى، إذ يؤكد أن ما يحصل في المنطقة يستهدف كافة الفئات وكل الطوائف، "وأنه إستكمالا لمخطط كيسنجر بهدف تقسيم المنطقة لفئات ودويلات متناحرة طائفيا ومذهبيا، فضلا عن تهجير المسيحيين الى أوروبا وأميركا، وما فتح باب الهجرة في أميركا أمام مسيحيي لبنان إلا جزء من هذا المخطط".
كما يؤكد مروان على أن "المسيحي عندما يرى تنظيم داعش وغيره من التنظيمات المخترعة (صهيو — أميركيا) يلقى له بيئة حاضنة وتجاوبا ضمن البلدان العربية بحجة الإسلام والإسلامو فوبيا، فمن الممكن له أن يغادر ويترك أرضه".
ومن هنا يؤكد مروان على أهمية الوعي وأهمية تمسك باقي الطوائف بالمسيحيين سواء في لبنان أو سوريا أو مصر أو العراق، وهو الأمر الذي لم يحدث في هذه الدول، لكن التعويل يبقى على لبنان بحصول مثل هذا الأمر.