انتهاء التنافس القطبي الثنائي بين معسكر اليمين ومعسكر اليسار يتجلى بأوضح صورة في بروز ظاهرة المرشح مانويل ماكرون الذي يعدّ فعلا مفاجأة الانتخابات الرئاسية الحالية.
لم يكن المنافس على مقعد الرئيس الفرنسي، معروفا إلى وقت قريب لدى عامة الناس، ولم يتوقع أحد بزوغ نجم هذا الشاب وبهذه السرعة في سماء الحياة السياسية الفرنسية، التي ظلت لعقود وفية لثنائية كبار السياسيين من اليمين واليسار.
تمكّن إيمانويل ماكرون من الصعود بثبات في صفوف المؤسسة الفرنسية عندما قرر استغلال مهاراته، كمصرفي متمرس في عالم الاستثمار وعقد الصفقات، في عالم السياسة.
لكن منذ استقالته المفاجئة من الحكومة بعد عامين فحسب في المنصب الوزاري، أوضح ماكرون أنه سيكون مناهضاً للشكل المؤسساتي المعتاد في دواليب باريس، ساعدته في أن يصبح أحد المتنافسين الحقيقيين للفوز بالانتخابات الرئاسية، التي تعد الأكثر غموضاً في فرنسا قبل عيد ميلاده الأربعين.
وإذا فاز ماكرون البالغ من العمر 39 عاماً، فسيصبح أصغر رئيس لفرنسا منذ نابليون بونابرت، ويعزو الكثيرون صعوده المفاجئ إلى توق الفرنسيين لوجه جديد مع انهيار غير متوقع لعدد من منافسيه من التيارات السياسية الرئيسية خاصة اليمين واليسار التقليديين، ولعب ذكاؤه التكتيكي الحاد أيضاً دوراً في صعوده.
ورغم توقع البعض هبوط أسهمه لصالح اليمين المتشدد بعد الهجوم الذي نفذه داعشي في شارع الشانزليزيه الخميس الماضي، لكن ظل ماكرون محافظاً على الصدارة تليه مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية المنتمية لليمين المتطرف.
شغل ماكرون منصب مستشار للقصر الرئاسي، ثم وزير الاقتصاد في حكومة الرئيس فرانسوا أولاند الاشتراكية، وفي ذلك المنصب انتقد مبادئ راسخة كان البعض يعتبرها أبقاراً مقدسة في "النموذج الاجتماعي" مثل العمل 35 ساعة في الأسبوع والحماية المطلقة للوظائف، والبقاء مدى الحياة في الدوائر الحكومية.
هذه الرسائل جعلت منه أحد أكثر السياسيين شعبية في فرنسا، وهو إنجاز كبير بالنسبة لمصرفي سابق في بلد لا يكن فيه الكثيرون احتراماً للدوائر المالية العليا.
وعندما استقال في أغسطس الماضي ليتفرغ لحركة "إلى الأمام" السياسية التي أسسها في أبريل 2016 قال كثير من النقاد إنه سيكون في أفضل الأحوال مجرد "شهاب" قصير العمر، لكن مع ارتباك الاشتراكيين وانشغال مرشح يمين الوسط فرانسوا فيون بفضيحة مالية ظهر ماكرون في موقع الصدارة.
وأذهل ماكرون منافسيه من خلال بناء قاعدة تأييد راسخة والحصول على تأييد سياسيين منشقين عن يسار الوسط ويمين الوسط.
وهو دائما يطرح نفسه على أنه ممثل الوسط، بمنطق الجمع بين اليسار والليبرالية، والتعامل بنظام رأسمالي يحمي حقوق العمال، ويقلل من نسب البطالة، ورغم ذلك فهو مازال محل شك بين الكثير من اليساريين التقليديين، لكنه يقول دائماً إن طموحه هو تخطي الانقسام اليساري-اليميني الذي طالما هيمن على الساحة السياسة الفرنسية.
بناء على هذا المسار؛ يمكن تصنيف المرشح الفرنسي الجديد على واجهتين، أما الأولى فتجعل منه منتوجا كلاسيكياً لمسار رجل السياسة الفرنسي من جهة الدراسة والتكوين، وكذا من جهة التجربة السياسية.عمل ماكرون بالمؤسسة المالية الأبرز في فرنسا وفي العالم، "روتشيلد" الذائعة الصيت في صياغة السياسة ونحت السياسيين بأوروبا كلها، وهو أيضا خريج "المعهد الوطني للإدارة"، الذي خرج منه معظم رؤساء فرنسا ما عدا ساركوزي، وكذلك خريج المدرسة اليسوعية الخاصة.
وأما الثانية فتُظهره في صورة المرشح الأبرز للرئاسيات، وفيها يبدو عنصر المفاجأة أكثر جلاءً باعتبار قصر تجربته السياسية مقارنة ببقية المرشحين، وحتى صغر سنه (39 سنة) مقابل كبار الساسة المخضرمين.
وحينما حاولت زعيمة اليمين المتطرف لوبان، و زعيم اليمين فيون، التقرب من موسكو، وهو ما جعل حضور الدب الروسي ثقيلا في كواليس السياسة الفرنسية، أعلن ماكرون مؤخرا "حاجة فرنسا إلى إجراء حوار بنّاء مع الرئيس الروس بوتين، ووضع روسيا أمام مسؤولياتها"، منتقدا في الوقت نفسه لوبان وميلونشون وفيون الذين اعتبرهم "مفتونين ببوتين"، وهو ما يعكس رغبة ماكرون في الإبقاء على علاقة قوية مع موسكو، دون الذوبان الفرنسي في الثلوج الروسية.
وتبقى محاولة الحفاظ على الانتماء الفرنسي أوروبياً، والإبقاء على روابط موضوعية ثابتة مع موسكو من جهة ومع واشنطن من جهة أخرى، هي أعقد المعادلات التي يجب على المرشح الرئاسي القادم حلها.
النقاط الأساسية لبرنامج ماكرون لا تحمل مفاجآت كبرى على مستوى خطوطها العريضة، وهي تتميز أساسا بمحاولة توسيع هامش الوعود التي تسمح له بالتحرك يمينا ويسارا على طول الخريطة الحزبية.
"سياسيا يسعى ماكرون إلى إعادة ترميم الحياة السياسية المتأثرة سلبا بفضائح استغلال النفوذ عبر "منع البرلمانيين والوزراء من توظيف أبنائهم وأقاربهم" مثلاً، في محاولة لتجاوز الفضيحة المالية والعائلية لمرشح اليمين فرانسوا فيون، وسعيا منه إلى استعادة بعض الثقة التي فقدها السياسيون الفرنسيون خلال العقود الأخيرة".
اجتماعيا تمثل وعودُه بشأن سن التقاعد وعدم تحوير سن الخروج إلى المعاش، وبرنامجه الخاص بالضواحي والاندماج، واقتراح المساواة في الرواتب بين الرجل والمرأة، أو توظيف أكثر من عشرة آلاف رجل أمن وشرطة إضافيين؛ محاولاتٍ لتغطية أفق انتظار الناخب الفرنسي المتذمر من آثار الأزمة الاقتصادية.
أما عن ملف التشغيل —الذي يؤرق الناخب الفرنسي- فقد وضع المرشح الفرنسي خطة لاستثمار خمسين مليارا سيتم ضخها على مدى خمس سنوات، من أجل النهوض بالمؤسسات الفرنسية لتصبح قادرة على المنافسة والتشغيل.
ماكرون متزوج من بريجيت ترونو، التي كانت معلمة في المدرسة التي كان يدرس بها وقد تعرف عليها وعمره 16 عاماً. وبسبب الفارق الكبير بينهما في السن البالغ 24 عاما، وهي التي تقف بقوة خلفه، وتشكل واجهته الإعلامية، وتضع له كل خطط تحركاته ومواءماته، خاصة في تصريحاته التي تتسم دائما بالمرونة وعدم التشدد.