منذ عقود طويلة طرح الاقتصاديون مشاكل الزيادة السكانية وربطوها بالموارد المتاحة، وكانت هناك تخوفات من أن تقضي تلك الطفرة البشرية على ما يمكن تحقيقه من تطور اقتصادي، وتوالت التحليلات والنظريات، فتحققت تلك المخاوف في دول "العالم الثالث" وما بعده، بعد أن فرض عليه الحصار التكنولوجي ومنع من امتلاك وسائل التطور، فأصبحت الزيادة السكانية غير مدروسة وغير موجهه، بل تحولت تلك القوة إلى عبء ثقيل قد تنفق عليه تلك الدول المعدمة نصف ميزانياتها للحد منه، وأصبحت تلك الدول طاردة لسكانها "الهجرة غير الشرعية"، وفي أحيان كثيرة تحتل مراكز متقدمة جداً في معدلات الجريمة والإرهاب، ونما نوع من الكراهية بين تلك المجتمعات والمجتمعات الأخرى المتقدمة.
في نفس التوقيت هناك دول، استطاعت تطوير وتأهيل الثروة البشرية لتكون عماد تقدمها وتطورها، حتى وإن لم يكن لديها موارد طبيعية "اليابان" مثلاً، صار الفارق شاسعا بين الغرب وأمريكا وبين أفريقيا والكثير من دول الشرق الأوسط، ومع تطور الإعلام وكثرة وسائل الإبهار والتواصل، تطلع المعدمين في الدول الفقيرة إلى "الحياة الآدمية" في الغرب، هربا من الجوع والفقر والجهل والمرض.
في السنوات الأخيرة ومع سيطرة رأس المال على مقاليد الأمور في العالم، زادت مرارة العيش وأصبح مواطنو تلك الدول المعدمة يعيشون الغلاء الفاحش وقلة الدخول والزيادات الكبيرة في نسب البطالة، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام الهجرات الشرعية وغير الشرعية.
آسيا وأفريقيا الأعلى
تتصدر آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية قارات العالم في المعدلات العالية للزيادة السكانية، حيث تستحوذ على 92% من الزيادة السكانية على مستوى العالم، ويمثل عدد سكانها ما يقارب الـ 77% من تعداد العالم، وتظهر تلك الزيادة بشكل أكبر في البلدان الأقل تقدماً وعلى رأسها القارة الأفريقية.
وبدأت زيادة السكان "القنبلة السكانية" تُثير القلق والتساؤلات حول مدى كفاية الموارد الاقتصادية بشكل عام والموارد الغذائية بشكل خاص، ومدى التناسب بين نمو السكان وتنمية الموارد، في الوقت الذي تتعقد فيه الأمور من بلد لآخر نظراً للتفاوت في الموارد الطبيعية والاقتصادية والبشرية بين دول العالم، وتوزع السكان ونجد هذا التفاوت ليس بين دول العالم بل ضمن حدود الدولة الواحدة.
وتشير التقارير والأبحاث إلى أن أفريقيا تحتوي على معظم الأقاليم التي يطلق عليها "أقاليم الجوع"، وهى المناطق التي لا يتوافر فيها للفرد الحد المناسب من السعرات الحرارية.
أول تحذير اقتصادي
أول من حذر البشرية من خطر تكاثر السكان في العالم هو الاقتصادي البريطاني المعروف، توماس مالتوس (1766-1834) عندما نشر نظريته عن تكاثر السكان عام 1798 والتي تفيد أن "سرعة الزيادة في السكان تفوق سرعة الزيادة في إنتاج الغذاء. والزيادة النسبية في إنتاج الغذاء تحفز على زيادة السكان، وإذا فاقت زيادة السكان إنتاج الغذاء، فهذه الزيادة ستتوقف بسبب المجاعة والأمراض والحروب".
ونظراً للتقدم المذهل في العلوم الطبية والتحسن الكبير في الخدمات الصحية واكتشاف اللقاحات ضد الأوبئة التي كانت تفتك بالبشر في الماضي مثل الحصبة والجدري والكوليرا والتدرن وغيره من الأمراض، حصلت زيادة مطردة في السكان في القرن العشرين بشكل غير مسبوق، في دول العالم الثالث، إلا أن التقدم الحضاري ونشر الثقافة وتحسن المستوى الاقتصادي وتعقيدات الحياة في العالم الغربي المتقدم، جعل النمو السكاني يتوقف عند مستوى ثابت في البلدان الغربية منذ عشرات السنين ومعها التقدم الاقتصادي والاجتماعي. والثبات في السكان، إضافة إلى السلام والاستقرار السياسي والسياسة الاقتصادية المبنية على روح المنافسة، ساعد كثيراً في تحقيق التنمية الاقتصادية وتحسن المستوى المعيشي للفرد على شكل قفزات نوعية في العالم الغربي المتقدم بعد الحرب العالمية الثانية.
الصورة المعكوسة
وفي الوقت ذاته كانت الصورة معكوسة في بلدان العالم الثالث المتخلف وخاصة في البلاد العربية كما يقول د. محمد عرب الموسوي، أستاذ الجغرافيا بكلية الربية الأساسية بجامعة ميسان بالعراق في رصده للمشكلة "رغم تحقيق الاستقلال السياسي وتكوين الدول الوطنية ذات السيادة الكاملة، إلا إن ذلك قد رافقه تفشي الفساد الإداري وحصول انفجار خطير في السكان مرتبطاً بتراجع رهيب في التنمية البشرية والاقتصادية وتردي المستوى المعيشي وانتشار الفقر، فهناك حلقة مفرغة، الفقر يؤدي إلى زيادة النسل وزيادة النسل تؤدي إلى المزيد من الفقر ومعه الكوارث، فقد لوحظ أن تعداد السكان في البلاد العربية أخذ يتضاعف كل 20-25 عاماً تقريباً، أي الزيادة بشكل متوالية هندسية "2، 4، 8، 16.. وهكذا".
فمثلاً كان سكان العراق عام 1920 حوالي مليون ونصف المليون، بينما بلغ حسب إحصاء عام 1997 حوالي 24 مليوناً وقد يصل إلى أكثر من أربعين مليوناً العام الحالي 2017".
وأضاف الموسوي، أن إنتاج الطعام بالنسبة للفرد فى العالم زاد إلى أعلى بنسبة 3%، فى متوسطات الفترة الثلاثية 1979-1981 والفترة الثلاثية 1991-1993، بينما كان الارتفاع فقط 2% فى أوروبا وانخفض نحو 5% تقريبا فى أمريكا الشمالية. وعلى العكس، قفز إنتاج الطعام/نسمة حوالي 22% فى آسيا عموما، متضمنا 23% فى الهند و 39% فى الصين."
وتابع الموسوي، لاحظ أن ذلك يكذب فكرة أن الجوع هو ناتج تعدى الزيادة السكانية حدود طاقة إنتاج الطعام، حيث يفيض إنتاج الطعام بصورة هائلة النمو السكاني، تجد الجوع، وذلك طبعا، بسبب المؤسسات الاجتماعية المسئولة عن خلل التوزيع الذي يفضل مصلحة النخبة، بغض النظر عن الفقر والجوع المنتشر بين الآخرين نتيجة لذلك.
القنبلة السكانية الجديدة
وفي مقال للكاتب الأمريكي جاك جولد ستون، الأستاذ بكلية السياسات العامة بجامعة جورج ميسون الأمريكية في مجلة فورين أفيرز تحت عنوان: "القنبلة السكانية الجديدة: التحولات الأربعة الرئيسية التي ستغير وجه العالم"، يقول الكاتب أنه قبل 42 سنة قد أطلق عالم البيولوجي "بول إيرلتس" صيحة تحذير قوية من حدوث مجاعة عالمية في السبعينيات والثمانينات في ضوء تجاوز نمو سكان العالم لإنتاج الغذاء وموارد حيوية أخرى، ولكن بفضل الاختراعات الحديثة وجهود مضنية في مجال الزراعة ـ مثل الثورة الخضراءـ وانتشار برامج تنظيم الأسرة فإن مخاوف ايرلتس لم تتحقق والواقع أنه منذ السبعينيات قد زاد الناتج الاقتصادي العالمي وانخفض معدل الخصوبة بشدة خاصة في الدول المتقدمة.
انخفاض إلى النصف 2050
ووفقاً للكاتب جاك جولد ستون
" تتوقع هيئة الأمم انخفاض النمو السكاني العالمي بحوالي النصف بحلول عام 2050 حيث يكون وقتها عدد سكان العالم حوالي 9,15 مليار شخص في المتوسط وحتى في ضوء تزايد المشاكل البيئية أو حدوث فشل تام في التعافي من الأزمة الاقتصادية الحالية، فمن المتوقع زيادة الناتج الاقتصادي العالمي بنسبة 2 إلى 3% سنوياً وهو ما يعني أن الدخل العالمي سوف يزيد كثيراً عن عدد السكان خلال العقود القادمة حسب توقعات هيئة الأمم.
ولكن من ناحية أخرى كما يوضح الكاتب أن الأمن الغذائي العالمي في القرن الواحد والعشرين لن يرتبط فقط بعدد سكان العالم وإنما بالتركيبة السكانية وتوزيعها.
أخطر التحولات
وأشار الكاتب إلى وجود أربعة تحولات تاريخية، والتي ستغير التركيبة السكانية للعالم على مدى العقود الأربعة القادمة، وهي انخفاض الوزن النسبي لديموغرافية الدول المتقدمة بحوالي 25% وانتقال مركز القوة الاقتصادية إلى الدول النامية، شيخوخة قوة العمل في الدول المتقدمة وتناقصها، زيادة حاجة الدول المتقدمة للعمالة المهاجرة لتلبية متطلبات النمو الاقتصادي وأخيراً معظم النمو السكاني المتوقع في العالم سيتركز وبصورة متزايدة في دول العالم الفقيرة والمسلمة والتي تعاني من نقص خطير في التعليم الجيد وفي رأس المال وفرص التوظيف، ولأول مرة في التاريخ سيعيش معظم سكان العالم في المدن وليس في القرى ولكن أكبر المراكز الحضرية ستكون في أكثر دول العالم فقراً حيث يندر غالباً الرعاية الصحية وينشر التلوث.
80% نقمة عند العرب
وفي نفس السياق قال الدكتور رأفت البابلي الأستاذ في جامعة "كولن" الاتحاد الأوربي، إن الدول المختلفة تتباهى بالنمو السكاني وبزيادته مثل أوروبا والدول النامية، كون البشر هو المصدر الرئيسي لنمو اقتصاد تلك الدول، عكس بعض الدول العربية والتي تعتمد على خيرات الأرض مثل البترول وماشابه.
وتابع البابلي، الفرد الأوروبي يتعلم من الصغر كيف يكون إنسان والدولة تستثمر هذا الفكر البشري لنمو اقتصاد بلادهم، فالزيادة السكانية نعمة في الدول النامية المتعلمة المثقفة، لأن الفرد البشري يعتمد على التعليم والثقافة والصناعة وبناء الدولة بغض النظر عن مسمياته الدينية والعرقية.
أما في الدول العربية 80% من الزيادة السكانية "نقمة" والدليل الفكر المتطرف لبعض البشر في العالم العربي، نتيجة عدم رعاية الأطفال من الصغر وعدم رصانة العلم والدراسة وتهميش دور المرأه عند بعض البلدان العربية بل أغلبها، لأن المرأة والطفل هما الأساس المجتمعي الذي يرتكز عليه الإنسان في أوروبا والدول النامية، وهنا نحتاج إلى جدولة علمية، حول كيفية تعليم وتثقيف وتربية الأطفال من أجل زيادة إنتاجهم، ولا يمكن إغفال أن الزيادة السكانية دمار لكل شعب غير نامي وغير حضاري.
معسكرات التأهيل
ومن جانبها قالت الدكتوره عبلة إبراهيم، الوزير المفوض بجامعة الدول العربية، سابقا، إن الزيادة السكانية تكون عائقاً عندما لا يتم تأهيلها وتدريبها والاعتناء بها منذ الطفولة، وهناك الكثير من الدول المتقدمة استطاعت أن تحتل الصدارة الاقتصادية في العالم رغم أنها تعدادها يفوق تعداد قارة، الصين على سبيل المثال، واليابان لا تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية واستطاعت استغلال قوتها البشرية بشكل مذهل.
أما بالنسبة للزيادة السكانية في مصر، فقد بدأت حكومة الستينات وضع استراتيجية لاستيعاب تلك الزيادات عن طريق مراكز التدريب المهني والتأهيلي، وإنشاء صناعات تستوعب هؤلاء المتدربين بعد تخرجهم لزيادة الانتاج والمساهمة في النمو الاقتصادي، واستمر هذا الأمر حتى السنوات العشر من عصر الرئيس السابق مبارك، ثم تم هدمها بعد ذلك، وهناك توجه للحكومة الحالية نحو تلك المنظومة ولكن الأمر يسير بشكل بطيء، وللعلم ليس كل القوى البشرية في العالم تحمل شهادات جامعية.
وعن المخرجات التي تنتج عن الزيادة السكانية، قالت ابراهيم، أن الزيادة السكانية غير المستغلة ستنتج تسول وجريمة وإرهاب ، ويجب على الدول الإضلاع بهذه المشكلة ووضع الخطط لها قبل أن تتفاقم الأمور.
تحقيق: أحمد عبد الوهاب