عالم الاقتصاد، ندد خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بسياسة الصندوق التي تعزز الخصخصة والتقشف، مؤكداً في الوقت نفسه على أنه لا يمكن تجاهل حقوق الإنسان في سياسة القروض، مطالباً الصندوق بمنح القروض للدول التي "تفي بالتزاماتها على صعيد التنمية واحترام حقوق الانسان".
تصريحات الرجل، أثارت السؤال الأهم على الإطلاق: هل تتوافق الآليات التي تعتمدها مؤسسات مالية عالمية لمنح قروض مع رؤية الأمم المتحدة، وليس في مجال حقوق الإنسان، أم تتعارض؟ والأمر نفسه بالنسبة للتنمية المستدامة؟
وحسب الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد السابق بجامعة عمان أحمد عبدالجواد، وهو موظف سابق لدى صندوق النقد الدولي، فإن الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي على الدول، الراغبة في الحصول على تمويل أو قروض، تتسبب في الغالب في إضافة مزيد من الفقر لمواطني هذه الدول، بسبب الالتزامات الكبيرة التي تلقى على عاتق الحكومات، وهي التزامات مقيدة يفرضها الصندوق.
وأضاف:
"شروط الصندوق، لقاء منح القروض تزيد من نسبة البطالة في الغالب، كما أنها تضر بأسواق العمل، وتتسبب في تقلص الإمكانيات الصحية، من خلال الإصرار على عدم توجيه الدعم وهذه القروض إلى الميزانيات الأساسية للدول، كما أنها تفرض وتصر على مشروعات بعضها مفيد للصندوق ويضمن حقه ولكنه غير مفيد للدولة ويهدر طاقاتها وجزء من إمكاناتها".
وشدد الخبير الاقتصادي على أنه ما من دولة حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي وتمكنت من إعادة اقتصادها إلى الحالة التي كان عليها، حيث أنه في الغالب تعجز الدول عن تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية، فالقرض يدمر الاقتصاد الوطني لأي دولة، ويتسبب بشكل مباشر في تآكل الطبقة الوسطى، ويلقي بها في أحضان الفقر، وبالتالي يتحولون إلى فقراء، وفي نفس الوقت تنقسم طبقة الأغنياء، بعضها يهبط والبعض الأخر تتضخم ثرواته بشكل كبير.
وأوضح الخبير الاقتصادي أن صندوق النقد الدولي في الأساس هو وكالة متخصصة من وكالات منظومة الأمم المتحدة، أنشئ بموجب معاهدة دولية عام 1945 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، ويتمثل دوره في: منع وقوع الأزمات الاقتصادية والمالية، وليحقق ذلك يقوم بمتابعة الاقتصادات الخاصة بكل دولة، والاقتصاد العالمي، وإقراض البلدان الأعضاء التي تمر بمشكلة لتيسير قيامها بالتصحيح، ومساعدتها في علاج المشكلات الاقتصادية الطويلة الأجل، من خلال الإصلاحات.
ولكن الصندوق — والحديث لـ"عبدالجواد"- خرج كثيراً عن هذا النهج، من خلال المتابعة بشكل خاطئ، أو فرض شروط تؤدي بضرورة الحال إلى أزمات أكبر، وليس أدل على ذلك من القرض الذي منحه الصندوق لكل من مصر والعراق في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حينما فرض "روشتة" للإصلاح الاقتصادي تتضمن خصخصة القطاع العام، وكانت النتيجة — بخلاف الفساد- هي تزايد البطالة والفقر، بعد خسارة أعداد كبيرة من المواطنين لوظائفهم في كلا البلدين.
الصندوق، الذي تسهم الولايات المتحدة الأمريكية، بالنصيب الأكبر فيه، حيث تبلغ حصتها نحو 17.6% من إجمالي الحصص، ربما اعتبرته بعض الدول وسيلة لتجاوز عثرات مؤقتة، ولكنه بالتأكيد كان لعنة على دول أخرى، ولعل أبرز هذه الدول كانت اليونان والبرازيل وغانا وزامبيا وتركيا، على الرغم من أن بعض هذه الدول أصبحت كيانات اقتصادية محترمة في الوقت الراهن، لكنها عندما اقترضت من الصندوق، تسببت في كوارث كبرى.
والبرازيل على سبيل المثال، مع بداية الثمانينيات، اقترضت من الصندوق، وبالفعل نفذت شروطه، اعتقاداً في الوصول إلى حل لأزمتها الاقتصادية، ولكن ما لم يكن بالحسبان هو أن هذه الشروط أدت إلى تسريح ملايين العمال، وخفض أجور باقي العاملين، بخلاف إلغاء دعم طلاب المدارس. ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد، تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية.
وعلى الرغم من أن الأزمة استمرت 12 عاماً، لحين تمكن البرازيل من سداد القروض بالكامل، إلا أن أثارها امتدت، وأصبح 20% فقط من البرازيليين يمتلكون نحو 80% من أصول الممتلكات، و1% فقط يحصلون على نصف الدخل القومي، ما أدى إلى هبوط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، نتيجة أن نصف الشعب أصبح يتقاضى أقل من نحو 80 دولارًا شهريًا، الأمر الذي دفع البرازيل إلى الاقتراض من الصندوق مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار، للخروج من الأزمة.
واشترط الصندوق على اليونان اتخاذ مجموعة من الإجراءات التقشفية، مثل تحقيق فائض الإيرادات عن النفقات، مخصوم منها الفوائد المستحقة على الديون، ما أدى إلى فشل اليونان في سداد ديونها، وتزامن ذلك مع وصول نسبة ديون الناتج المحلي إلى 175% عام 2015، وارتفعت معدلات بطالة لأكثر من 25%، الأمر الذي تسبب في اضطرابات سياسية كبيرة، وبعدها اعترف المسؤولون في صندوق النقد، بأن اليونان وضعت نهاية لنظرية التقشف كوسيلة لسداد الديون.
وبعدها أعلن صندوق النقد، أن اليونان عجزت عن سداد ديونها للصندوق، ولم تتمكن من دفع نحو 1.5 مليار يورو كانت مستحقة عليها في ذلك الوقت، لتصبح أول دولة متطورة تراكم مبالغ متأخرة ولم تعد قادرة على الاستفادة من الموارد المالية لهذه المؤسسة الدولية.
وفي غانا، اتخذت الشروط شكلاً مختلفاً، حيث اشترط الصندوق على الدولة رفع التعريفة الجمركية عن السلع الغذائية المستوردة، وفور تلبية غانا لهذا المطلب، أغرقت المنتجات الأوروبية الأسواق الغانية، ما تسبب في كارثة للفلاحين هناك، الذين جاءت الأغذية الأوروبية بأسعار أقل من ثلث السعر المحلي، وفي الوقت نفسه لم يستطع البنك والصندوق أن يفرضا على المجموعة الأوروبية تقليل الدعم لمنتجاتها الزراعية التي تصدرها للعالم الخارجي بأسعار منخفضة.
من جانبه، يرى الدكتور رمضان إبراهيم، أستاذ الاقتصاد التنموي بجامعة بنها، أن صندوق النقد الدولي يبدأ مفاوضاته باشتراط مباشر أن تعمل الدولة طالبة القرض على تقليل معدلات الدعم، حيث يطلب من القائمين على القرارات السياسية والاقتصادية تخفيض دعم أسعار السلع الأساسية، وهو ما يؤدي مباشرة إلى عجز الفقراء ومحدودي الدخل عن الوفاء بمتطلبات الحياة الأساسية، ويوسع دائرة الفقر، وتهبط أعداداً كبيرة من المواطنين تحت خط الفقر العام في الدولة.
وأوضح أن النوايا الطيبة قد تكون موجودة، فالدولة تتصور أن بإمكانها أن تحسن اقتصادها من خلال قرض الصندوق، ولكن الأخير يعمل كأي دائن، فهو يصر على فرض دائرة الأمان لنفسه، لضمان قدرة الدولة على السداد، وبالتالي يضع شروطه ويحصل على ضمانات كاملة لتنفيذها، وأولها هو التعرف على كل التفاصيل المتعلقة باقتصاد الدولة الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى الموازنة العامة للدولة.
ويشرح أستاذ الاقتصاد التنموي، الأسباب الرئيسية التي تجعل مسألة خفض الدعم تدريجياً وصولاً إلى إلغائه، مطلباً رئيسياً للصندوق، قائلاً إن تقليل الدعم، وخصوصاً على السلع الغذائية والطاقة، يضمن أن تتوفر فوائض مادية لدى الدولة لسداد قيمة أقساط القرض، ولكن الأثار السلبية التي تترتب على ذلك هو أن الدولة تصبح بين مطرقة موعد "القسط"، وسندان احتياجات المواطنين.
وبطبيعة الحال بحثت الدولة عن وسيلة للتعافي، فلجأت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، الذي فرض عليها مجموعة من الشروط، تضمنت إجراء إصلاحات اقتصادية عديدة، منها تشجيع ودعم أنشطة الأعمال وتحريرها من القيود القانونية، وخلق مناخ استثماري جاذب، وخصخصة القطاع العام، وتحرير سعر صرف العملة المحلية "الليرة"، من خلال تطبيق نظام سعر صرف مرتبط بالدولار.
ولكن التجربة التركية — رغم صعوبتها وارتباط البدايات بحالة شديدة من الإحباط- لا يمكن وصفها بأنها فاشلة، خاصة أن الحكومة التركية تمكنت من التفاوض مع الصندوق من أجل الوصول إلى شروط أخف وطأة، وفي الوقت نفسه تبنت برنامجا متكاملا للإصلاح الاقتصادي، تناسب مع ظروف تركيا وطبيعتها، وفي عام 2015، نجحت في تسديد كافة ديونها من الصندوق النقد الدولي.