وفي حقيقة الأمر، فقد شكلت الثورة البلشفية، رافداً للعديد من حركات التحرر الوطني، ذات الإيديولوجية الشيوعية في العالم العربي، وهو ما ترجم لاحقاً بتوالي تشكيل الأحزاب الشيوعية، من مصر وفلسطين ولبنان وسوريا…الخ.
ولا يختلف اثنان على أن نشأة الاتحاد السوفييتي شكلت دعماً أساسياً لكل التحرّكات التحررية تلك، طوال العقود السبعة اللاحقة على ثورة أكتوبر، تماماً كما شكل انهياره — وبالتالي فشل تجربة أكتوبر/ تشرين الأول- زلزالاً مدمّراً، ما زال اليسار العربي بشكل خاص يعاني من إرهاصاته.
ومع تأكيدهم على استحالة استنساخ ثورة أكتوبر، إلا أن اليساريين العرب يرون أن إرثها لا يزال حاضراً، في مئويتها الأولى، بالرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي والتحولات المزلزلة التي شهدها العالم منذ اكثر من ربع قرن.
يقول القيادي التاريخي في "الحزب الشيوع اللبناني" موريس نهرا، في حديث لوكالة "سبوتنيك"، إن "المسألة الأولى التي جسدتها الثورة هي أنّه يمكن للطبقات الكادحة أن تنتفض وتبني دولة وسلطة ونظام جديد، يحرر الإنسان من إمكانية الاستغلال، وهذا أمر أثبتته ثورة أكتوبر على مدى ما عاشت، أي أن الثورة يمكن أن تحقق طموحات البشر على الأرض، وليس كوعد الحياة في الجنة".
ويضيف أن "انتصار الثورة وما قدمته من إنجازات دفع بالطبقات الكادحة في العالم ككل، وبخاصة في البلدان الرأسمالية والمتقدمة، إلى مواصلة النضال، حيث أجبرت السلطات الحاكمة على تقديم تنازلات على مستوى القضايا المتعلقة بحقوق الطبقات التي تعمل بالأجرة، كالضمانات الاجتماعية والتعويضات والشيخوخة وصندوق البطالة الخ…".
ويشير نهرا إلى أن "ثورة أكتوبر تركت أثرها في بلدان العالم النامي، أو ما يسمى ببلدان الجنوب، حيث هناك شعوب تمكنت من تحقيق استقلالها، وإن كانت هذه الدول الآن في ظروف سيئة تحت السيطرة الرأسمالية والإمبريالية في العالم، ولا تزال بالتالي في موقع التبعية".
ويشدد نهرا على أن "سقوط الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي لم يزيلا هذه الآثار لدى شعوب العالم في نضالاتها نحو عالم أفضل".
من جهته، يقول المشرف على أعمال المدرسة الحزبية في الحزب الشيوعي اللبناني، الدكتور مفيد قطيش لـ"سبوتنيك"، إن "ما بقي من ثورة أكتوبر في كل العالم هو الوهج الذي خلفته، والمقصود بذلك أن الاستغلال ليس قادراً على إخضاع البشرية، وأنه في لحظة من اللحظات، عندما يتحوّل الواقع الموجود إلى عائق أمام حركة البشر، فإنهم يبحثون عن المخرج من المأزق فتكون الثورة".
ويضيف "انطلاقاً من ذلك يمكن فهم ثورة أكتوبر اليوم، إذ لا يجوز الحكم على ما بقي من الثورة على أنها سقطت، فكل القرن العشرين سار تحت وهجها، وكل التغيرات التي حصلت في الرأسمالية المتطورة حصلت تحت وهجها أيضاً"، ما يعني أن "الثورة باقية كمنهج وحل للتناقضات الاجتماعية ".
يجيب نهرا على هذا السؤال قائلاً إن "الثورة التي يحتاجها العالم أصبحت أكثر إلحاحاً بعد الثورة الكبيرة التي أوجدت الاتحاد السوفييتي، الذي تحوّل إلى قطب كبير في وجه القطب الإمبريالي الاستعماري".
ويضيف أنه "بعد تفكك الاتحاد السوفييتي حصل ما حصل على مستوى العلاقات الدولية، تحت عنوان الأحادية الأمريكية، فانكسار الثورة البلشفية، أتاح للدولة الإمبريالية الكبرى، وهي الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع خطتها للهيمنة على العالم، وهو أمر يتطلب من شعوب العالم أن تواصل النضال، برغم الانتكاسات المتلاحقة، لرفع الهيمنة والمضي قدماً في التحرر الوطني".
ويرى أن "العالم بحاجة إلى ثورة ولكن ليس بالمعنى الضيق، وإنما بأهداف اجتماعية واقتصادية، سواء في البلدان الرأسمالية المتطورة أو على صعيد بلدان حركة التطور الوطني وغيرها".
بدوره، يقول قطيش "اذا أخذنا الجانب الموضوعي من السؤال، بمعنى هل تحتاج البشرية إلى ثورة، لا أتردد في الإجابة بنعم، لأنه في الوقت الذي بلغ فيه التطور العالمي مستوى يسمح بإشباع أربع أضعاف البشرية الموجودة اليوم، نجد أن العالم غارق في بحر من المشاكل المهددة لبقاء البشرية، من مشاكل البيئة، والأسلحة النووية، والإفساد الذي يمارس على مستوى الثقافة والأخلاق أو الجريمة".
ويضيف "كل هذا يدفع أي القول إن الثورة ضرورة ، لكن من المؤسف أن الجانب الذاتي في تلك الضرورة غير مهيأ، ولا يتشكل، إذ تعتمد السلطات المسيطرة على شراء الفئات الواسعة من الناس، بهذا التنازل أو ذاك، ما يجعل القوى النقيضة للبرجوازية ولرأس المال عاجزة عن القيام بهذه المسألة".
ومع ذلك، يشدد قطيش على أن "الثورة ليست مستحيلة"، معرباً عن اعتقاده بأنه "في حال تمكنت القوى الثورية من إيجاد السبل لتنظيم الناس من جديد ستكون الثورة ممكنة".
ومن جهة ثانية، يقول واكيم إن "الثورة البلشفية هي التي دفعت باتجاه عملية التفاعل الاجتماعي والتخلص من طبقة اجتماعية كانت تنتمي الى القرون الوسطى، ألا وهي الإقطاع الروسي، حيث تمّ فتح الطريق أمام طبقة اجتماعية للصعود واستلام السلطة، والدفع قدماً باتجاه التطور وتحويل روسيا إلى قوة عظمى تمكنت من دحر النازية في الحرب العالمية الثانية، وهي تتحدى اليوم الولايات المتحدة الأميركية برغم هزيمتها في الحرب الباردة".
ولعلّ حديث واكيم عن البعد الروسي، يفتح المجال أمام قراءة للجدل القائم في روسيا نفسها حول ثورة أكتوبر في مئويتها الأولى.
ويرى موريس نهرا، في حديثه إلى "سبوتنيك" إن "تقييم الثورة اليوم، يحتاج إلى بحث كبير، ونقاشات واسعة، على مستوى العالم، لأنه بمجرّد أن عاشت الثورة سبعين عاماً، أو أكثر، فإنّ ذلك يمثل دليلاً على أن ثمة ظروف موضوعية ساهمت في بقائها، وليس ظروفاً ذاتية أو إرادية فحسب".
ويضيف "لقد كانت هناك موضوعية في روسيا انتجت ثورة أكتوبر، وقد بُنيت على نظرية التطور المتفاوت، وكتب عن ذلك لينين أنّ نضج الأزمات و يخلق أزمات بين الدول نفسها، ولكنه أيضا يولد أزمات اجتماعية وغيرها عبر الزمن، ومن خلال شروط تاريخية قد لا تحدث بالضرورة في وقت واحد أو متزامن".
أما قطيش فيتخذ موقفاً أكثر تشدداً، من حاضر روسيا، مقارنة بماضيها "الثوري"، إذ يقول إن "روسيا لا تستطيع أن تحافظ على موقعها في العالم، فبالرغم من استمرارها في امتلاك السلاح النووي، وبرغم التطورات الإيجابية التي حدثت مؤخراً، لجهة وجود سلطة سياسية تريد الحفاظ على مصالح روسيا، إلا أن الثورة المضادة التي حصلت أعادت روسيا إلى الوراء عشرات السنين إذا لم نقل مئات السنين"، لافتاً إلى أن "روسيا اتجهت إلى الرأسمالية، وليس لها موقع في الرأسمالية في الوقت ذاته، لأنها جاءت متأخرة، وبالتالي لا تستطيع أن تحتل مواقع جديدة، وهذا هو بيت القصيد في مواجهة الغرب لروسيا، ولا سيما الأميركيين الذين يقولون للروس: جئتم إلى الرأسمالية أهلاً وسهلاً… لكن ينبغي عليكم أن تدركوا بأنّ مكانكم متواضع".
في المقابل، يرى جمال واكيم أن "الثورة البلفشية أعلنت ولادة القرن العشرين، مثلما أعلنت الثورة الفرنسية ولادة القرن التاسع عشر". ويضيف أنه "برغم هزيمة الثورة الفرنسية في معركة واترلو إلا أن العالم ما يزال يعتمد على مبادئها سواء في النظم الديمقراطية أو الليبرالية أو حقوق الإنسان وما إلى ذلك"، لافتاً إلى أن ذلك ينسحب على ثورة أكتوبر، بالرغم من أنها سقطت في العام 1989، أو ربما قبل ذلك، في عهد بريجنيف، إلا أنها بذورها ما زالت موجودة، والدليل على ذلك أن القوى التي تتحدى الإمبريالية الأمريكية تعتمد على نماذج كانت قد اقترحتها الثورة البلشيفية سواء في التنمية أو في التنظيم السياسي، ولذلك فإن هناك الكثير من الأمور يمكن أن نتعلمها من مبادئ ثورة أكتوبر وتطويرها".