صادفنا أم عمار، وهي من سكان المنطقة القديمة المنكوبة من الساحل الأيمن للموصل، مركز نينوى، شمالي بغداد، قرب جامع الأجوجاتي الكائن في منطقة الشيخ محمد، حيث بيتها الذي فقدت فيه ودفنت داخله وقربه خمسة من أفراد عائلتها.
لم تضع أم عمار، في بالها أن الأطفال الذين ستحملهم في رحمها، تدفنهم بكلتا يديها في بيتها الذي طالما امتلأ بخطواتهم الأولى، وضحكاتهم وتلك التفاصيل الصغيرة لحياتهم القصيرة التي أنهت على يد تنظيم "داعش" الإرهابي، وضربات طيران التحالف الدولي ضد الإرهاب.
التقت مراسلة "سبوتنيك" في العراق، بأم عمار الموصلية، وحدثتنا بلهجة موصلية يشبهها العراقيين من باقي المحافظات بأنها الأقرب للهجة السورية، مع لفض الراء غين على الطريقة الفرنسية، لم تغادر منزلها بالرغم من شدة القصف والعمليات الإرهابية التي تلذذ تنظيم "داعش" في تقطيع البشر فيها إلى إرب ودفن الأحياء منهم في عمق المأساة والجوع هناك في كل مناطق الساحل الأيمن الذي نال الدمار والضرر الأكبر من المعركة منذ نحو عام تقريبا ً.
تقول أم عمار، وهي تصف قصتها بالمؤلمة:
فقدت خمسة من عائلتي، دفنتهم بيدي، أولهم زوجي، وبعده ابني بشار العبيدي البالغ من العمر 36 سنة — وهو شاب معمم — زوجته تعرضت لإصابة إثر القصف ما جعلها معوقة غير قادرة على المشي.
— دفنت ابني صالح (22 سنة) من مواليد 1995، في "الأودة" "على حد لجهتها الموصلية الأصيلة، والتي تعني "في الغرفة".
وفي أول أيام عيد الأضحى عندما كانت المدينة تحت سطوة "داعش" الإرهابي منذ منتصف عام 2014، وحتى السنة الماضية، دفنت أم عمار، أبنتها وزوجها في أرض مهجورة، بعدما قتلا سوية إثر الضربات الجوية التي كان من المحدد أن تستهدف عناصر "داعش" لكنها تسقط بين الحين والأخر على المدنيين وتفحمهم وتدفنهم تحت أنقاض البيوت.
وأخبرتنا أم عمار، أن ابنها بشار "المعمم" كان خطيب جامع، رفض مبايعه تنظيم "داعش" فحكم عليه بالإعدام، ونفذ به، ومن بعده أصيبت زوجته بالشلل إثر القصف أثناء عمليات تحرير الموصل، ومن بقي هم أطفالهم الأيتام الذين يواجهون الحاجة لعلاج أمهم ومساعدتها على الخروج على الأقل باحة المنزل وتنفس الهواء الذي هو الأخر لم يعد كما كان سابقا ً ذو ربيعين جميلين تتمتع بهما نينوى عن بقية مدن العراق الأخرى، فقد بات ملوثا ً يزكم الحياة من رائحة الجثث والموت والبيوت المخيفة.
ما تبقى لأم عمار، قبر أبنها الذي تغطيه بمفرشين أرضيين إثنين وكأنها تدفئه، بعدما قتل أثناء محاولته إنقاذ جاره صديقه من تحت الأنقاض عند اشتداد المعارك، وأثاث أبنتها التي مزقها القصف، بعدما نقلته إلى منزلها الذي احترقت أثاثه إثر قصف ناله أثناء العمليات العسكرية.
وتناشد المرأة الموصلية، وهي ليست الوحيدة في الموصل، فقدت أبنائها وتعيش في دوامة الحزن والفقر، الجهات المعنية والمنظمات الإنسانية وحقوق الإنسان، النظر بما بقي من حياتها والأطفال الأيتام الذين ترعاهم بكل ما قوتها التي أخذت بالتلاشي ألما ً وبؤسا ً يوماً بعد يوم، منذ أفرغت شجاعتها كلها في دفن أولادها وأبنتها الواحد تلو الآخر.
طالما أخبرتني صديقتي ومصادري الذين كانوا يعيشون الحرب في أيامها الحالكة التي انقضت بحبس الأرواح في أقبية الدور المقصوفة، والمنسوفة تفجيرا ً وتلغيما ً على أيدي "داعش" الإرهابي، أن العائلات أخذت تدفن أفرادها الضحايا في داخل منازلها، لعدم تمكنها من مغادر عتب الدور نحو المقابر التي هي الأخرى لم تسلم من عبث الدواعش وتدميرهم لكل شيء يمت للوجود والتاريخ والمستقبل.
وكأن الأمهات ومنهن أم عمار، بطلات في ديوان "الفرح ليس مهنتي" للشاعر والأديب السوري الكبير، محمد الماغوط، إذ من اليوم الأول الذي أجتاح فيه تنظيم "داعش" الإرهابي، مدينة الموصل كبرى مدن سكان العراق بعد العاصمة بغداد، وكذلك مدن الأنبار وصلاح الدين وأجزاء من كركوك، فقدن السعادة بل وماتت بقلوبهن مع موت أبنائهن وبناتهن وأزواجهن وأحفادهن الصغار الذين قطعن شوطا ً كبيرا ً في الحياة لمقابلتهم وليس جمع أمعائهم الممزقة وأدمغتهم السائلة في الطرقات إثر الإرهاب والعنف.