دمشق — سبوتنيك. البكاء هو ذلك الفعل البشري الطبيعي عند الفراق أو اللقاء، وعند الخلاص أيضا، تسمع الأصوات والزغاريد المترافقة مع إطلاق العيارات النارية، كل المعطيات تشير إلى أن هنالك خطب ما يجري في دمشق، اتفاق الغوطة كتب أخر سطر له في الحكاية الدمشقية الشرقية فلماذا التجمهر أمام صالة الفيحاء الرياضية الواقعة على أوتوستراد العدوي، ولماذا قطع أحد أبرز الطرقات الواصلة بين الشرق الدمشقي بوسط المدينة والذي تسبب في زحمة مرورية خانقة؟.
وصلت حافلات المحررين من سجن التوبة في دوما للقاء من افتقدوهم خلال سنوات الحرب، الأهالي يركضون باتجاه الحافلات علّهم يجدون ما يبحثون عنه بين كل الحاضرين، ينزل المحررين من الباصات محييّن بهتافات النصر بعد العذابات التي عاشوها في الأقبية، في مشهد أقرب لفريق رياضي منتصر يلتقي جمهوره المحب، لا سيما أن اللقاء جرى في صالة من أكبر الصالات الرياضية الشعبية في سوريا.
فراق وصورة تحكي اشتياقات وألم
تتخبط هذه المرأة القادمة من عمق الصالة بعد أن سجلت اسمها من المحررات الخارجات من "سجن التوبة" التابع لجيش الإسلام في مدينة دوما، تتلفت هناء نحو اليمين واليسار على جانبها ابنتها سمر"17"عاما تمسك بيديها المرتجفتين خوفا من إضاعتها، هي الطفلة التي دخلت السجن بعمر الـ12 ممضية سنين مراهقتها بين أربعة جدران، تزيح هناء يدها عن كتف ابنتها وتركض بعد أن تراءى لها صورة ابنها بين ذراعي جدته على مسافة أمتار قليلة.
تحتضن الأم الباكية ابنها الذي لم يفارق صدرها بصورة له ابقتها بحوزتها طوال سنواتها الخمس، حيث قبعت في ظلام السجن مختطفة من مدينة عدرا العمالية، تتفحص وجهه، تقبل كل ما يقع فمها عليه، تنظر إلى عينيه الغارقتين بالدموع وتتوعده بعدم الفراق، تخرج الصورة من ثديها وتقول له "أنظر، لم تفارقني يا حبيبي، كنت أنت أملي في الخروج، يا فرحة أمك صرت رجال".تقول هناء صاحبة الجسد النحيل، "كنا محتجزين في قبو لا نبصر فيه النور مع ستة من النساء، حالهم كحالنا، أصبحوا عائلتنا في سجننا، تقاسمنا الطعام والشراب وحتى المرض".
هناء واحدة من بين خمسة عشر محررا، خرجوا ضمن الدفعة الأولى من قوافل المختطفين، وذلك بعد خضوع "جيش الإسلام" للاتفاق القاضي بخروجهم نحو جرابلس في الشمال السوري، مقابل تسليم المختطفين لديهم للحكومة السورية، وتسوية أوضاع من يريد البقاء في المدينة التي تعتبر عاصمة الغوطة الشرقية بسبب كبرها وتنوع الحياة الاجتماعية بداخلها.
تتعدد مشاهد اللقاء بين من حرر وأهله، كل اللقاءات نالت الدموع من وجنات جفت على البعد والفراق، حيث لم تترك هذه اللحظات مراسل سبوتنيك أن يخوض في خضم التفاصيل إلا حين يتشتت الحديث من قبل ذوي مخطوفين أخرين طالبين من أحد المحررين أن يعرف صاحب صورة ما إن كان قد شاهد صاحبها في السجن أم لا.
وتذكر لمى إحدى المحررات، "لقد خطفت مع عائلتي من مدينة عدرا العمالية عندما هجم علينا المسلحون في ديسمبر/كانون الأول 2013، اقتادونا نحو السجن وبقينا هنالك لسنوات، كنا نعرف أخبار الرجال من خلال حديث المسلحين فيما بينهم وعبر (الأجهزة اللاسلكية)، علمنا أن بعض الرجال قد تم تصفيتها على أنها من قوات الجيش السوري، فيما تم تشغيل البعض الأخر بحفر الأنفاق وتجهيز مباني قيادات المسلحين.
ووفقا للمعلومات فإن مجمل المخطوفين من مدينة عدرا العمالية تم اقتيادهم في أواخر ٢٠١٣ بعد هجوم مسلحي النصرة، وتعرض البعض أثناء الهجوم للقتل، وشهدت المدينة قطعا للرؤوس على يد المسلحين لذات الأسباب، فيما تم إنشاء سجن التوبة لاستيعاب من بقي على قيد الحياة وذلك في محاولة من قبل المسلحين للمقايضة على معتقلين لدى الحكومة السورية.
وبحسب معلومات خاصة لـ "سبوتنيك"، فإن العديد من المخطوفين تمت تصفيتهم عام 2015 لأسباب غير معروفة، علما أن المسلحين لم يسلموا قوائم بأسماء من بقي على قيد الحياة، وذلك في محاولة للضغط على الحكومة السورية، في حين تشير المصادر أن أسماء المفقودين المسجلين في وزارة المصالحة الوطنية مبنية على معلومات من قبل ذوي المفقودين.
معاناة الأقفاص لم يرويها أحد من الخارجين…
في كل لقاء أجراه مراسل "سبوتنيك" كان يفتقد لراوي يتحدث عن الأقفاص الحديدية ومن نجى منها وكيف كانت المعاناة أثناء اليوم العصيب، إلا أن جميع الخارجين تحدثوا عن ما سمعوه فقط لا عن ما شاهدوه، سيما وأنهم كانوا قابعين في الأقبية دون حراك، ولم يكونوا من بين مجموعة من وضع في الأقفاص على قارعة الطريق.
وكانت المعلومات قد أكدت أن "جيش الإسلام" كان يحاول استخدام المخطوفين كدروع بشرية للرد على استهداف الغوطة، حيث قام بتسيير شاحنات داخل مدينة دوما، تحمل أقفاصا حديدية كبيرة تحمل بداخلها عدد من الأفراد مدنيين وعسكريين.
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أدانت هذه العملية التي جرت أواخر 2015 على اعتبارها جريمة حرب كونها تعرض الأشخاص للخطر كما أنها تعد اعتداءً على كرامتهم.
وتتحدث منى لمراسل "سبوتنيك" "لا نعلم ماذا جرى على إثر حادثة الأقفاص، هنالك بعض النسوة ممن كنّ معنا في الزنزانة لم يعدن، أما نحن فكنا ننقل من مكان لأخر بعد أن يتم عصب أعيننا إلى أن دخل علينا أحدهم وطلب منا تجهيز أنفسنا لأننا سنخرج".
الأعداد النهائية مخيبة..
قرابة الـ 200 محرر حطو رحالهم في منازلهم بعد لقاء محبيهم في صالة الفيحاء الرياضية التي تجمّع فيها المئات من ذوي المخطوفين، إلا أن الأعداد النهائية للخارجين مع انتهاء عملية الإخراج لم ترضي الجميع لتكون "الغصة" أكبر معبر عن ألم الفقدان النهائي بعد الأمل.
تقول أم علي المرأة الخمسينية التي مسحت وجنتيها المبللتين بيديها المجعدة، بقيت جالسة عند المعبر لثلاثة أيام منذ أن قيل لنا أن الاتفاق قد تم، "كنت مفكرة علي حيطلع وحشوفو بعد خمس سنوات، بس علي ما كان من بين اللي طلعوا".
يشار أن العملية لا زالت مستمرة حتى الانتهاء من عملية الإخراج النهائية لمسلحي "جيش الإسلام" ليكون العدد بحوالي الـ42 ألف بين مسلحين وعوائلهم، وتم إنهاء إخراج المختطفين نحو دمشق مع خروج الدفعة الثالثة من مقاتلي المعارضة المتشددة.
حال أم علي كغيرها من الآباء والأمهات والأصدقاء، اللذين بقوا صامتين بعد أن ضرب الأمل فيهم بلقاء أحبّتهم ليعود بعد الحقيقة خائبا متعبا نحو صورة معلقة في صدر المنزل مع شريطة سوداء على زاويتها تدعو له حياة جديدة بعيدة عنهم.