تعرف مدينة غريان بمنازل الحفر، حيث تعتمد على طبيعة التربة الطينية الصلبة المنحوتة في باطن الجبل، وذلك بحفر المأوى أو المسكن رأسيا لوسط المنزل، ومنه يتم حفر الحجرات أفقيا، وهي عبارة عن فناء مفتوح يشبه البئر العميق ويصل عمقه إلى نحو 16 متر، ويمكن الدخول إلى البيت من خلال القوس الموجود على سطح الأرض والذي يقود إلى السقيفة وهي (وسط المنزل).
500 عام
تقول د. عائشة المليان أستاذ التاريخ وأحد سكان المدينة إلى "سبوتنيك" إن "بيوت الحفر في غريان" المقامة تحت الأرض تعد من أبرز معالم العمارة المحلية لسكان منطقة غريان الليبية، وأن الليبي القديم لجأ إلى حفر البيوت تحت الأرض بسبب المناخ القاسي بالمنطقة، حيث الطقس بارد جدا في الشتاء، حار جدا في الصيف، وهو ما دفعه لتوفير الحماية والعزل الحراري للبيت على مدار العام من خلال موقعه تحت الأرض، بحكم خبرتهم بعلم الطبيعة وتكيف التربة مع حرارة الجو.
تضيف أن المنزل يتكون من "الحوش" وهو الفناء الداخلي ويتم حفره بعمق من 8 إلى 12 متر تحت الأرض ويطل على الفناء مجموعة من الفراغات المحفورة، وتسمى "ديار" وتتراوح مساحتها من 10 إلى 20 مترا مربعا للفراغ الواحد، مع حفر منحدر للسقيفة كمدخل للبيت من مستوى سطح الأرض، وأن بيوت الحفر تتمتع بالحماية من السيول عن طريق استخدام نواتج الحفر في بناء حزام أو حاجز يسمى "الكدوة" حول الفناء لمنع دخول مياه السيل للبيت، كما يوجد حفرة في مدخل كل بيت لاستيعاب مياه الأمطار.
حر الصيف وبرودة الشتاء
تتابع المليان أن حر الصيف وبرد الشتاء أجبرا سكان مدينة غريان منذ ما يقارب 600 سنة، على أن يبحثوا عن مأوى لهم يقيهم تقلبات الطقس في الليل والنهار، فحفروا بيوتهم في باطن الأرض بطريقة تلائم حياتهم فيه وتلائم ظروف الطبيعة والمناخ.
تجهيزات المنزل
يسكن حوش الحفر كما يسميه أهالي مدينة غريان أكثر من 8 أسر ويصل عددها في البيت الواحد إلى 6 أسر، تنحدر كلها من جد واحد وكانت كل أسرة تستخدم أكثر من 3 غرف، يوجد فيها المطبخ المجهز بالفرن المبني من الطين والفخار، كما يوجد فيها مكان للاستراحة وآخر للأكل ومكان لتخزين المؤونة والمياه وآخر للملابس.
في ذات الإطار تقول أسماء دبوس رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة غريان، والمهتمة بالجانب المعماري لهذه البيوت لـ"سبوتنيك" إن هناك أنماط وأشكال عديده لبيوت الحفر وأشكالها في غريان، وهذه الأنماط هي "بيت أو سقيفة وبيت الفصيل، والبيت المعلق، ويعتبر النمطان الأول والثاني الأكثر شيوعا وانتشارا في المنطقة نظرا لملائمته لطبوغرافيتها، وذلك على عكس النمط الثالث الذي يتطلب تنفيذه شروطا خاصة".
فيما يقول خالد مصطفى صاحب أحد البيوت في غريان في منطقة تعرف بـ(تغليسه) إن البيت يتكون من حجرات منحوتة حول ردهة محفورة بالجبل ومفتوحة على الهواء الخارجي، ولها مدخل واحد مشترك لكل البيت، ويضم البيت مجموعة من الأسر من نفس العائلة، ويتميز هذا الطراز من البناء بملائمته لظروف البيئة، فهو دافئ في فصل الشتاء وبارد في فصل الصيف، أي أن درجة حرارته شبه ثابتة مع درجة حرارة باطن الأرض.
ويضيف السيد الشيباني صاحب البيت بعض المعلومات عن البيت الذي ولد وترعرع فيه قائلا: "عمره تقريبا أكثر من 200 سنة وأن عمق الحفر من 12 إلى 15 متر، وأنه حفر الحوش بواسطة عمال من الجنوب بواسطة أدوات تقليدية كالفأس والبالة والقفة، وأنه يتم تخزين الحبوب في مكان يسمى الغرفة تكون مرتفعة عن سطح الأرض. وتتم عملية تصريف مياه الأمطار بواسطه منطقة محفوره وسط الفناء تسمى بالحفير".
استخدام النمل لتصريف المياه
وتقول المهندسة خولة الشباني أحد أبناء المدينة إنه إذا اقتربت من البيت ترى الردهة الرئيسية من الأعلى وتبدو منها بعض الحجرات ويتوسطها في العادة ماجن لجمع ماء المطر، ثم إذا نزلت من السلم تجد نفسك على أرضية الردهة وتظهر لك أبواب الحجرات المختلفة، بعضها تقيم فيه عائلات وبعضها منافع مثل المطبخ والمخزن المتصل بسلم خشبي وغرفة الأدوات.
وتضيف المهندسة عن بيتهم الذي يقع في وسط مدينة غريان عن غرفة نوم قائلة: "غرفة النوم هي في العادة غرفة المعيشة والأكل والحياة. بداخلها منطقة مرتفعة قليلا مثل مرتبة ينام عليها الأبوين، والأطفال ينامون على مرتبات على الأرض. وقد يحتوى البيت على عدة غرف مثل هذه لعدة أسر أو قد تستخدم غرفة للأولاد الكبار وثانية للبنات الكبار. وأن الحجرات فسيحة" واسعة " وتصميمها جيد هندسيا من حيث الأبعاد والأركان والجدران وتوحي بنمط عمراني متقدم".
وتابعت أنه يوجد حاجز يقسم غرفة النوم إلي قسمين قسم خاص بالأب والأم يفصله ستار يسمى بالسبنية، والجزء الباقي للأبناء وتؤكد جميلة اللباد لـ"سبوتنيك" أن البيت يقسم إلى ممر جانبي وفناء مركزي وفضاء للعائلة ومطبخ وفراغ للتخزين ويكون مرتفع قليلا عن الحوش بالإضافة إلى حضيرة للحيوانات، وتكون بعيدة قليلا عن الحوش في ممر طويل.
وتضيف أن المنازل توصف كأنها أعشاش الصقور على حافة الجروف شديدة الانحدار وعلى القمم في مغارات منحوتة في الجبال.
وتوضح جميلة أن هذه البيوت كانت تستخدم أيام الاحتلال الإيطالي منذ سنة 1911م مقرات لاجتماعات المجاهدين الليبيين لتوحيد الصف وقياده حركة الجهاد.