(المقالة تعبر عن رأي كاتبها فقط)
إلا أن الملاحظ في مظاهرات البصرة، أنها احتوت على مطلب يختلف عن نوع المطالب التي تنادي بها الاحتجاجات المعتاد عليها في العراق منذ سقوط النظام السابق، بل وتخطى مفهوم الخدمات التي تعانيها البصرة، حيث لامس هذا المطلب الاستراتيجية التي تتأسس عليها الحكومات العراقية منذ عام 2003 ، ذلك إدراكا من المتظاهرين في أن الحكومة ما هي إلا صدى لحكومة أخرى خارج الحدود.
وإذا ما تابعنا الكثير من التظاهرات التي خرجت رافضة للتدخلات الخارجية، فإن جلها، إن لم يكن جميعها، جاءت بناء على دعوات من جهات حزبية أو سياسية أو حكومية، وهو موضوع لا يشبه مظاهرات البصرة التي انطلقت بصورة عفوية ومفتقدة إلى التنظيم، مما يعطيها بعدا واقعيا صادقا يمكن أن تكون له مخرجات مستقبلية، وعلى الحكومات العراقية القادمة مراعاة ذلك وإلا فإن الضربة سوف تكون أشد في المرة القادمة، وهل من ضربة أقسى من ضربة الشعوب لحكامها.
وكأمر معتاد، كيلت الاتهامات للمتظاهرين بالعمالة ووقوف دول أخرى خلفهم، على الرغم من أن هذه الاتهامات غير واقعية بالمرة، فلو كان هناك بين المتظاهرين من له صلات بدولة أخرى، فكيف الحال بباقي المحتجين؟ وإذا كان لهؤلاء العملاء القدرة على توجيه الناس بالوجهة التي يريدونها، كان الأحرى توجيههم من خلال العمل السياسي الحكومي لمصلحة الدول التي تقف خلفهم، وهذا الأسلوب سوف يكون أكثر تأثيرا ونجاعة لفائدة تلك الدولة المحرضة، بدلا من توجيه جماهير غاضبة يحكمها العقل الجمعي السائر نحو موضوع متفق عليه سلفا.
ويبدو أن الكثير يشعر بالصدمة جراء ما قام به متظاهرو البصرة من عمليات حرق للمقرات الحزبية، التي يحملها مسؤولية تردي الأوضاع في المدينة، كيف لا يشعرون بالصدمة وهم يرون أن الوعي الجماهيري بدأ يزرع بذرة، سرعان ما سوف تتحول إلى شجرة تمتد جذورها إلى خارج الحدود حتى. ومع ذلك، فإن الأمور ليست بتلك البساطة، فالتدخل الخارجي هو الآخر له جذوره، وقطع شجرة التدخل الخارجي لا يعني موتها ما لم تقتلع تلك الجذور.
وأهم هذه الجذور هو المال السائب الذي تعتاش عليه الجهات المرتبطة بدولة الجوار تلك، فالجهات السياسية الفاعلة في العراق التي ترتبط عقائديا بدولة خارج الحدود وتعمل لمصلحتها، تقتات في الوقت نفسه على مال الدولة العراقية وليس على مال الدولة المرتبط بها عقائديا، وبالتالي تحصل تلك الدولة المتدخلة على الفائدة دون مقابل، ومهمتها فقط وضع الخطط والاستراتيجيات التي تضمن بقاء وكلائها في سدة الحكم. وعلى هذا الأساس، فإن مسك يد تلك الجهات من الولوج إلى مال الدولة كفيل بتيبس جذورها وموتها، فالمال الذي تسيل له لعاب الأحزاب المرتبطة بالخارج، يجعلها تفعل أي شيء من أجل كسب رضا الدولة الحامية لها. وقد يسأل سائل، وما علاقة المال بالارتباط العقائدي، فالقضية هي روحية وليست مادية. عندها يمكن الإجابة على هذا السؤال بالقول، أن أحزاب الايدلوجيا والعقائد قد انتهت في العالم مع أفول نجم الشيوعية، وأصبح المال هو محرك الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية الحديثة، فالقضايا العقائدية ترسخ بواسطة الإعلام القائم على النفوذ والسلطة، وهي أمور تبنى جميعها بالمال، فالمغرر بهم عقائديا، ما هم بحقيقة الأمر إلا أناس تم شراءهم من حيث لا يشعرون. ولما كانت تلك الدولة غير مستعدة للتضحية بالمال، في ظل أزمة اقتصادية تعصف بها، فإن الجماعات المرتبطة بها سوف تعيش حالة التيه وفقدان البوصلة مع انعدام المورد المالي الداخلي، لذا قد تقوم بغرس أنيابها في جسد شعبها من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية، وهو بمثابة إعلان لموتها النهائي. والمؤسف أن السياسة في العراق قامت على هذا الأساس، أي قضية تمويل الأحزاب ذاتيا من خلال حصولها على المغانم وفقا لنظام المحاصصة الذي تعمل الأحزاب السياسية في العراق جاهدة على ابقائه ولو لآخر يوم من حياتها، مثلها في ذلك مثل الأنظمة الديكتاتورية التي لا تقتلعها إلا أسنة الحراب.
وبناء على ما تقدم، يجب أن تكون مهمة الحكومة القادمة اقتصادية بحتة، تضع نظرية اقتصادية تستطيع من خلالها إبعاد مصادر الدخل عن أيدي الأحزاب السياسية والمتمثلة بدوائر ومؤسسات الدولة، لا أن تقوم بوضع حلول آنية للمشكلة، والتي سرعان ما تستطيع الجهات الحزبية المنتفعة التعامل معها وتعود من الشباك بعد أن خرجت من الباب. وقد تكون أسرع طريقة لذلك هو وضع نظام خصخصة مبني على دراسة حقيقية تقدمها دول ذات باع بتجارب اقتصادية شبيهة لما يحصل في العراق، وأعتقد أن روسيا الاتحادية مرت بالتجربة نفسها أبان انهيار الاتحاد السوفيتي. ولضمان عدم عودة الأوليغارشية من أحزاب وشخوص السلطة، يجب أن يكون صندوق النقد الدولي هو المشرف على العملية. فالأمر في الوقت نفسه معقد ومحفوف بالمخاطر، لكن لا سبيل للخلاص من المنتفعين و اللاهثين وراء السرقة من الذين يعملون لحساب أي دولة مادامت تضمن لهم الوصول إلى السلطة، إلا بإبعادهم عن مراكز المال، وكما يقول المثل العراقي الدارج "شجابرك على المر غير الامر منه".