بمجرد الدخول إلى طريق الدير، تجد الأرض المرصوفة بالحجارة الملونة، وكأنها إحدى الطرق المرسومة طبيعيا، رغم تدخل يد بشرية بها، فهي في سياق المشهد العام، بما يحيطها من جبال شاهقة، تبدو مزهرة للعيان، وتبشر بأن هناك من التفاصيل ما لا يجب أن تخطئه عيناك، ولولا ضيق الوقت وطول الطريق واتساع الدير، لكانت الفرصة أكبر للتوقف ووصف هذا الجمال الساحر على أطراف الدير.
يقع دير سانت كاترين، أسفل جبل كاترين، الذي يعد من أعلى جبال مصر، بالقرب من جبل موسى، ويعود بنائه إلى القرن الرابع الميلادي، عندما أمرت ببنائه الأمبراطورة هيلانة، والدة الأمبراطور قنسطنطين، ثم سكنته القديسة كاترين، التي كانت من عائلة وثنية وآمنت بالمسيحية، والتي أعدمها إمبراطور وثني، لأنها جعلت أعوانه من العلماء يؤمنون بالمسيح، وكان الإعدام بقطع الرأس.
دير سانت كاترين، حسب التاريخ المسيحي، هو واحد من أقدم الأديرة في العالم، كما أنه واحد من أهم المزارات السياحية، الدينية والترفيهية أيضا، حيث يجذب السياح من جميع أنحاء العالم، خاصة أن المعروضات التي توجد به هي آثاره الأصلية، والمجموعات الرمزية فيه هي الأقدم في العالم.
عند تجاوز الفناء الأمامي، ومن خلال سلم جانبي يتوازى مع منحدر للسيارات تم تخصيصه حديثا، تجد نفسك على باب كنيسة "التجلي"، وهي المكان الأهم في الدير، والذي تخفض رأسك عن تجاوز مدخله، إذا كنت طويلا، لكي تتمكن من الدخول. إلى يسار الباب تجد بابا أخر يقودك إلى سلم يقود للأسفل، هناك تجد باب إلى اليمين، يضم مئات الزخارف والصلبان، وبداخله تجد باب المذبح، تعلوه منصة ضخمة يقف عليها المسيح مصلوبا.
وتنبؤنا السجلات المحفوظة داخل مكتبة الدير، أن كنيسة التجلي تم بناؤها بأمر من الإمبراطور البيزنطي "جستنيان"، والذي خصص لها أمهر الفنانين، الذين قاموا على تشييدها بطراز مبهر، حيث بابها الخشبى محفور بإتقان، وتضم 3 أعمدة ثقيلة مصنوعة من الجرانيت، تفصل ممرات الكنيسة عن بعضها البعض، كما أن جدرانها مزينة بلوحات القديسين من أعلى إلى أسفل.
كما تضم كنيسة التجلي محرابا عظيما الشأن، يحوى تابوتا مزخرفا، ويضم هذا التابوت رفات القديسة كاترين، كما تحتوي على واحدة من أجمل لوحات الفسيفساء، والتي تعد الأكثر شهرة في الأديرة، وهى لوحة التجلي، والتي ترجع إلى عام 542 ميلادية، وتصور تجلي المسيح وهو محاط بالأنبياء والقديسين والرسل.
بئر موسى
عند الخروج من المذبح، والاتجاه إلى الباب ناحية اليمين، تجد نفسك أمام حفرة، محاطة بسور صغير ويعلوها حاجزا زجاجيا، لمنع من يريدون التسلق من النزول إلى البئر، هذا هو "بئر موسى"، الذي التقى عنده نبي الله موسى زوجته للمرة الأولى، حينما جاءته طالبة العون في أن يملأ لها الماء من البئر، والتي عادت إليه تدعوه إلى بيت أبيها.
ويخبرنا القرآن الكريم بهذه القصة، عندما عادت الفتاة إلى النبي موسى لتطلبه لأن والدها يريد أن يراه، ذهب معها النبي، وكان أن التقى بنبي آخر وهو شعيب، الذي اتفق معه على أن يعمل عنده 8 سنوات مقابل أن يزوجه ابنته، وقد كان أن تزوجها موسى، وعمل لدى والدها 10 سنوات، قبل أن يأخذها ويعود إلى قومه.
شجرة العليقة المقدسة
عند عودة النبي موسى، وفي نفس المكان تقريبا، وكانت الظلام دامسا، شاهد على البعد نارا، فطلب من زوجته وأهله أن ينتظروه، لأنه شاهد نارا وسيأتي منها بقبس، أو ربما يجد من يرشده، ولكنه عندما توجه إلى هذا المكان، وجد أن النار كانت ممسكة في شجرة لم تحترق، والهدف من هذه النار كان جذبه وحده لكي يكلمه الله، وهو اللقاء الذي تحدثت عنه جميع الكتب السماوية.
بعد البئر بأمتار قليلة، تجد هذه الشجرة، وهي نبات نادر لا ينبت إلا في دير سانت كاترين فقط، وله مكانة خاصة لدى المسحيين واليهود، ولكن أهميته وندرته تكمن في أنه أخضر دائما ولا يذبل أبدا.. وقد بنى القائمون على الدير منذ قديم الأزل جدارا حول الشجرة لحمايتها.
ولهذه الشجرة، حسبما يقول المؤرخون، ميزة غريبة جدا، حيث أن بعض علماء النباتات حصلوا على جذورها لزراعتها في مناطق أخرى في العالم، ولكن النبات الذي خرج يختلف في خصائصه وصفاته عن النبات الموجود في الشجر الأصلية، رغم أنه يشبهه، ولكن عند زراعتها في تربة سانت كاترين كانت مماثلة له.
المكتبة
تحتوي مكتبة دير سانت كاترين على مجموعة مهمة جدا من المخطوطا والكتب النادرة، حيث تم افتتاحها منذ 10 أشهر تقريبا، وتحديدا في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2017، وهي تقع في الطابق الثالث من بناء قديم، يتبع كنيسة التجلي، وكان في حاجة إلى إعادة ترميم وتطوير.
في العام 2007، تقدم رهبان الدير بطلب لترميم واجهة المكتبة وتطويرها، ووافقت عليه اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية، وتمت أعمال التطوير تحت إشراف منطقة آثار جنوب سيناء، حيث شملت أعمال التطوير النصف الشرقي من مبنى المكتبة، ورفع كفاءة التوظيف المعماري للمبنى، بالإضافة إلى دعم وترميم سور جاستنيان، وهو من أسوار القرن السادس الميلادي.
وتحوي هذه المكتبة نحو 6 آلاف مخطوطة، بعضها تاريخي وبعضها الأخر ديني، بجانب مخطوطات مهمة جغرافية واجتماعية وفلسفية، حتى أن بعض هذه المخطوطات والكتب يعود إلى القرون الرابع والخامس والسادس الميلادية.
من هي القديسة كاترين
"كاترين" هي قديسة مصرية وليست يونانية كما أشاعوا قديما، وهي ابنة كوستاس، كبير إحدى العائلات النبيلة في محافظة الإسكندرية المصرية. وكانت كاترين تعيش في مصر في فترة حكم الإمبراطور الروماني مكسيمانوس، بين العامين 305 إلى 311 ميلادية، وكانت هذه أيام وثنية، ولكنها آمنت بالسيد المسيح، وتحولت إلى المسيحية، ما دفع الإمبراطور إلى إصدار أوامره بتعذيبها لحين تراجعها عن إيمانها.
وحسب المؤرخين، فإن هذا التعذيب لم يؤثر على إيمانها، ما دفع الإمبراطور لإصدار أمره للجنود بقطع رأسها، ويقال إنه بعد عدة قرون على قتلها، رأى أحد رهبان سيناء في منامه أن الملائكة حملوا بقايا جسدها إلى قمة جبل قرب الدير، وعندما صعد الرهبان إلى هناك وجدوا الرفات بالفعل، فدفنوها هناك وأطلقوا على الجبل اسم "سانت كاترين".