عند مغيب الشمس، تعود أم محمود من عملها الشاق الذي يزيده برد الشتاء قساوة، وعلى عادتها اليومية، تبدأ بالاطمئنان عن أولادها المرابطين على جبهات القتال ضد الإرهاب في سوريا.
لم يعتد السوريون رؤية نساء عاملات نظافة، وخاصة من أهالي مناطق شرق سورية التي تسود فيها العادات العشائرية والقبلية، لكن هذه الظاهرة التي تعرَف إليها المجتمع الميّال في معظمه للعادات والتقاليد الشرقية، قوبلت باحترام الناس وتقديرهم للسيدات اللواتي التقتهن "سبوتنيك" في "جرمانا" بدمشق، من خلال حملة قامت بها هيئة القديس أفرام السرياني بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط لتنظيف المدينة وتأمين فرص عمل لمئة شخص من متضرري الحرب وذوي الاحتياجات الخاصة.
اللافت في الفكرة أن السيدات يمارسن عملهن الذي لطالما كان مقتصراً على الرجال، بأريحية كاملة، بل وعلى العكس تماما، فإن نظرة الاحترام التي يقابلهن بها المارة، زادتهن تصميما على أداء واجبهن على أكمل وجه، وهنّ المحتاجات لمصدر رزق يساعدهن في عيش حياة كريمة دون اللجوء إلى الغير.
"أم محمود"، القادمة من دير الزور، تصف خروجها من هذه المحافظة قبل أعوام بـ "المعجزة"، فبعد أن عانت هذه المحافظة اجتياح تنظيم داعش الإرهابي، كان على أم محمود الهروب على وجه السرعة من قريتها، اختارت الوجهة شمالا كأقل الطرق خطورة، فغذت الخطى وبدأت التنقل بين القرى والبلدات، لتصل بعد ثمانية أيام متتالية إلى محافظة الحسكة قرب الحدود مع تركيا، ومنها انتقلت إلى دمشق.
أم محمود، وهي أم لفتاتين وشابين يؤديان خدمة العلم، تركت خلفها كل شيء: أرضها التي تقع على الضفاف الشمالية لنهر الفرات ومنزلها الذي يتوسط حقول القمح الواسعة هناك.. وذكرياتها أيضا، لتتنقل في رحلتها المحفوفة بالخوف بين مناطق سيطرة مسلحي داعش الإرهابي والميلشيات الكردية إلى أن وصلت إلى مناطق سيطرة الجيش السوري وسط محافظة الحسكة.
على جبين أم محمود، كان الخوف دافعا غريزيا يتصبب عرقاُ في كل لحظة، فما أن يعرف التنظيم الإرهابي أن ولديها يؤديان خدمة العلم في الجيش العربي السوري، حتى تتحول أمهم إلى أداة ابتزاز تفنّن "داعش"، كما التنظيمات الإرهابية الأخرى، على استخدامها ضد السكان المحليين.. مع داعش تحديدا، كان البقاء حتى تلك اللحظة أشبه بالانتحار.
في حديثها لـ"سبوتنيك" تبرز أم محمود اعتزازها بولديها المستمرين في أداء خدمة العلم من أيام الحرب الأولى على سورية، وتؤكد أن لا مشكلة لديها في طبيعة العمل بين الحارات والطرقات، بل إن عملها مصدر فخر لأبنائها وبناتها حتى إنهم يباهون بها كأمٍ لهم، رفضت أن تمد يدها للغير، مفضلة العمل الشريف مهما كان شاقاً، داعية النساء جميعاً لكسب رزقهن بالعمل الشريف الذي يقدره كل الناس.
بدورها تشرح "خلود حسين عبود" أن وضعها المعيشي صعب لكن "الشغل مو عيب"، وليس فيه ما ينتقص من الكرامة كما قد يقول البعض، لذا هي تعمل ولا تبالي.
على عكس ما يظنه البعض للوهلة الأولى عندما يسمعون عن سيدات ينظفن شوارع تكثر فيها حركة الناس، في مدينة استقبلت مئات الآلاف من المهجرين من مختلف المحافظات السورية، وإن كان المجتمع السوري عموماً اعتاد أن ينظر للنساء بشيء من المداراة والحرص سواء كنّ ربات بيوت أو عاملات في مهن كالتعليم والطب والإعلام والهندسة وغير ذلك، لكنهن بعيدات بطبيعة الحال عن أي شيء يمكن أن يقلل من شأنهن أو شأن عوائلهن وفق ما يراه المجتمع، وهو ما تجاوزته هؤلاء النسوة بجدارة، مدفوعات بالرغبة في تأمين عيش كريم لأنفسهن ولأبنائهن، رافضات التسول أو طلب مساعدة الناس أو الجلوس في بيوتهن للثرثرة وانتظار أن يأتي الرجل بالمال سواء كان زوجاً أو أخاً أو ابناً.
لعل المشروع المستمر حالياً في أحياء جرمانا، يجد صدىً له لدى جهات أخرى بحيث يمتد إلى مناطق عديدة ويشمل نساء أخريات باحثات عن فرص عمل بعد أن ذقن ويلات الحرب.