في مارس/ آذار من هذا العام، كان الانخفاض مذهلًا بالمثل، وتراجعت أسعار خام برنت القياسي العالمي بنسبة 22 في المائة وأسعار الخام الأمريكي نايمكس بنسبة 20 في المائة، وسجلت مستويات غير مسبوقة منذ سنوات طويلة، بحسب تقرير لموقع "أويل برايس".
نتج هذا الانهيار الكارثي عن عاصفة من عوامل التباطؤ في السوق، على رأسها الانتشار العالمي المتسارع لوباء الفيروس التاجي الجديد، وإشعال السعودية حرب أسعار بعد تعثر محادثات تحالف "أوبك +"، الذي تشكل في عام 2016 ليشمل روسيا.
كان هذا التعثر ناتجا أساسًا عن جائحة فيروس كورونا المستجد، والتي أدت إلى انخفاض الطلب على النفط مع ضعف أداء الصناعة والاقتصاد، الأمر الذي دفع روسيا والمملكة العربية السعودية إلى بدء محادثات لمعالجة القضية، لكن الطرفان اختلفا حول بنود اتفاق ضبط الأسواق لكن الرياض رغبت في تعميق التخفيضات بينما رأت موسكو أنه من الأفضل الاكتفاء بالحصة المحددة سلفًا.
وبنهاية الشهر الماضي، انخفض سعر برميل خام برنت دون مستوى 22 دولارًا للبرميل، فيما تراجع الخام الأمريكي نايمكس مقتربًا من عتبة 20 دولارًا للبرميل، وهي مستويات غير مسبوقة منذ عام 2002. لكن على عكس المتوقع وبخلاف ما يحاول إظهاره الرئيس الأمريكي، فإن هذه المستويات لم تكن مزعجة للمنتجين الرئيسيين (روسيا والسعودية فقط).
موقف ترامب المتذبذب
منذ وصوله إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة قبل نحو 4 سنوات، يدعو دونالد ترامب إلى خفض أسعار النفط بشكل كبير، بما يضمن أسعار وقود معقولة للمستهلكين الأمريكيين. لكن الخبراء اختلفوا مع هذه الدعوة لأنها تضر بقطاع النفط المحلي.
بالأساس، يتحمل منتجو النفط الصخري تكاليف أعلى بكثير من نظرائهم المنتجين التقليديين، وبالتالي هم أكثر حاجة لأسعار نفط مرتفعة أو على الأقل متوازنة كي يحافظوا على أعمالهم على قيد الحياة (تعاني هذه الشركات بالفعل من ارتفاع المديونية وضعف السيولة النقدية).
ترامب الذي لطالما دعا إلى أسعار منخفضة كثيرًا للنفط، عاد مؤخرًا بعد انهيار الأسواق ليغير موقفه وقال إنه سيتحدث مع الرياض وموسكو لحثهما على التوصل إلى اتفاق يضبط سوق النفط ويحافظ على استقرار الأسعار، قائلَا إنه لا يأبه بمنظمة "أوبك" وأن أعضائها يدمرونها.
مخاوف ترامب التي دفعته إلى تغيير موقفه، تجلت في تصريحات جديدة أطلقها مؤخرًا، وقال فيها إنه سيفرض "رسوما ضخمة جدا" على واردات النفط إذا ظلت أسعار النفط كما هي، ولكنه أضاف أنه لا يتوقع إنه سيحتاج لذلك لأن لا روسيا ولا السعودية ستستفيد من استمرار حرب الأسعار بينهما.
لكن ما سر التحول
تاريخيًا كانت أمريكا تستفيد من انهيار النفط لأنها تستورد كميات هائلة منه، لكن طفرة صناعة النفط الصخري التي شهدتها العقد الماضي، جعلت الولايات المتحدة أحد أكبر المنتجين في العالم ووفرت لها الكثير من فرص العمل.
كان لحرب أسعار النفط والانهيار اللاحق آثار مدمرة على صناعة النفط الصخري مرتفعة التكلفة في أمريكا، والذي كان يعاني بالفعل من تناقص هوامش الربح، حيث أصبحت الأسعار دون حتى مستوى تكاليف الإنتاج التي تتحملها هذا الشركات.
في تقرير لوكالة "رويترز"، قالت إن
القليل من شركات النفط الصخري الأمريكية يمكنها الصمود في وجه حرب أسعار النفط الطويلة. في السنوات الخمس الماضية، كان منتجو النفط الصخري الأمريكي يقاتلون من أجل خفض التكاليف وتشغيل المعدات والأطقم، ومن الصعب دفع تكاليف الحفر إلى الأسفل بنحو 20 دولارًا للبرميل.
الأخبار اللاحقة من منطقة الحوض البرمي (المنطقة الأكثر نشاطًا في صناعة النفط الصخري الأمريكي والغنية بالاحتياطيات) كانت قاتمة للغاية، وأشار تقرير لمجلة "أويل ورلد" إلى أن الشركات تشهد عمليات تسريح لعشرات الآلاف من العمل.
في تحليل لمفوض السكك الحديدة في تكساس رايان سيتون (الجهة المنوط بها الإشراف على امتيازات المناطق النفطية)، قال إنه يتم حاليًا عمليات لتسريح عشرات الآلاف من العمال في جميع أنحاء الولاية.
وجاء في تقرير "أويل ورلد": "في حين أن العمال في كل صناعة تقريبًا مهددون نتيجة التباطؤ الاقتصادي، إلا أن القليل منهم أكثر عرضة للخطر من هؤلاء الموجودين في البقعة الغنية بالنفط الصخري".
بارقة أمل ولكن..
موسكو لم تحبذ لعبة "أوراق الضغط" ورغم الخلاف السياسي وتمسك واشنطن والغرب بسياسة العقوبات حتى في الوقت الذي يعاني العالم فيه أكبر تحدياته الإنسانية والاقتصادية من الحرب العالمية الثانية، لم تبدو جامدة في تفكيرها إزاء كيفية إدارة السوق وأكدت انفتاحها على إعادة التوازن للأسعار.
وأعلن السكرتير الصحفي للرئيس الروسي، دميتري بيسكوف، الأحد، أن روسيا لم تؤيد فسخ اتفاقية "أوبك+" وأن موسكو والرئيس الروسي بوتين يتطلعان إلى عملية تفاوض بناءة في هذا الشأن. فيما أعلنت الرياض، أنها بصدد عقد مؤتمر عن طريق الفيديو للمجموعة.
لكن بيسكوف قال:
"إنه يجب مشاركة الدول الأخرى التي لم تشارك من قبل في عملية تنسيق استقرار سوق النفط"، مضيفًا: "الحديث يدور حول تحقيق استقرار في السوق، وهذا يتطلب مشاركة الدول التي لم تشارك من قبل في التنسيق، وأولئك الذين هم الآن على اتصال عمل ويتحدثون عن ذلك".
بحسب إشارات خبراء في حديثهم لـ"سبوتنيك"، فإن مؤشرات نجاح الاجتماع المرتقب كبيرة، خاصة أن الخسائر ستعم تطال الجميع بدرجات متفاوتة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد تضطر لإغلاق منصات الانتاج حال استمرار تدني أسعار النفط العالمية، نظرا لارتفاع تكلفة الإنتاج عن الأسعار الحالية للبرميل الواحد.
يقول ربيع ياغي، الخبير النفطي اللبناني، إن "الاجتماع المقبل لدول "أوبك وأوبك بلس"، يهدف لإعادة التوازن إلى السوق، من خلال وقف حرب الإنتاج والأسعار".
وأضاف في حديثه لـ"سبوتنيك"، أن "الاستهلاك العالمي كان نحو 100 مليون برميل يوميا، إلا أنه تراجع منذ بداية عام 2020، إضافة إلى الركود الذي خلفته جائحة كورونا، وهو أثر على نسبة الطلب في السوق العالمية".
وأوضح أن "نحو 20% هي فائض في الأسواق، وأن الاجتماع المقبل لابد أن يوازن بين العرض والطلب، وأنه قد يشمل نحو 15 أو 20 برميل يوميا".
وشدد على أن "أمريكا لن تستطيع مواصلة انتاج النفط الصخري في ظل تراجع أسعار النفط، وأن ذلك سيدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إغلاق منصات الحفر والإنتاج لعدم قدرتها على الاستمرار في الوقت الراهن لارتفاع تكلفة إنتاج النفط الصخري عن الأسعار التي يمكن أن يبقى عندها سعر البرميل حال عدم التوافق، وأن كل هذه الأسباب هي ما دفعت ترامب للتدخل".
فيما قال الدكتور راشد أبانمي، رئيس مركز دراسات الطاقة والنفط بالسعودية، إن "الولايات المتحدة الأمريكية كانت الرابح الكبير من التزام أوبك بلس، وكانت أكبر المنتجين بحوالي 13 مليون برميل يوميا".
وأضاف أبانمي في حديثه لـ"سبوتنيك"، أن الولايات المتحدة كانت تصدر بعض الأنواع من البترول الخام، وفي نفس الوقت تستورد أنواع أخرى، حيث كانت اللاعب الحر في السوق العالمية.
وأكد مصدر مطلع، لـ"سبوتنيك"، أن الأمين العام لمنظمة "أوبك"، محمد باركيندو، على اتصال دائم مع دول "أوبك+"، وأن المشاركين الرئيسيين في الصيغة يدعمون فكرة الاجتماع، وأن معظم المشاركين على استعداد لخفض إنتاج النفط، هناك احتمال كبير لحصول إجماع.
في النهاية، وإذا كان يمكن الاستدلال بالأحداث التاريخية، يبدو أن المنتجين الرئيسيين في طريقهم لإعادة التوازن للسوق وتأكيد نفوذهم فيه، لكن هذه المرة وبما أن أمريكا أصبحت منتجًا رئيسيًا، فحري بها التوقف عن التعنت وأن تجلس على طاولة المفاوضات للمشاركة في قرار سيعود عليها بالنفع.