ويأتي بناء الكنيسة الرمزية كرسالة للتآلف والطمأنينة وتهدئة مخاوف مسيحيي الشرق بأن الدول الإسلامية هي أوطانهم وأن قيام الرئيس التركي رجب أردوغان بتحويل كنيسة آيا صوفيا التاريخية التي تعتبر إحدى أهم الكنائس في العالم إلى مسجد، هي تصرف فردي يخصه وحده وليس الشعوب الإسلامية التي تحتضن مواطنيها جميعا.
حيث كُتب على حجر أساس الكنيسة الرمزية "في عهد الرئيس بشار حافظ الأسد رئيس الجهورية العربية السورية وببركة مطران حماة وتوابعها نيقولاوس بعلبكي ومباركة روسيا الاتحادية ممثلة بقائد تجميع القوات الروسية العاملة في الجمهورية العربية السورية العماد ألكسندر يوريفيتش تشايكو، وضع حجر أساس كنيسة آيا صوفيا، تقدمة من نابل شفيق العبد الله عن أرواح شهداء السقيلبية وسورية وحلفائها وتيمناً بآيا صوفيا الكبرى".
ولاقت هذه الخطوة دعم ومباركة النخب الدينيّة المسيحيّة الأرثوذكسيّة في كل من سوريا وروسيا، واعتبروها خطوة تضامنية مع كنيسة آيا صوفيا الأم، وتأكيداً على أن الرئيس التركي لن يستطيع طمس معالم هذا الأثر العالمي المدرج على لائحة اليونسكو، والذي لعب دوراً مركزياً في التاريخ المسيحي على مدى 1500 عام.
"كنيسة آيا صوفيا في تركيا هي رمز الحكمة الإلهية لها مكانة كبيرة في حياتنا المسيحية" يقول الأب جورج كاهن قرية البيضا في ريف حماة لـ"سبوتنيك"، ويتابع "هي من أول وأضخم الكنائس في العالم، وكان لها الفضل في اعتناق روسيا الديانة المسيحية في عام 980م، عندما أرسل الأمير فلاديمير مجموعة من الرسل إلى أنحاء العالم لمعرفة الديانات المنتشرة لاعتناق إحداها بعد شعوره بعدم الرضى عن اعتناقه الوثنية، فوصلوا رسله إلى آية صوفيا يوم عيد الفصح وسمعوا تلك الترنيمات والحالة الجميلة والكلمات العذبة، وعادوا إلى روسيا وقالوا بما تدين آيا صوفيا نحن نؤمن، فاعتنق فلاديمير المسيحية وجعلها الدين الرسمي وفق المذهب الأرثوذكسي السليم".
يتنهد الأب جورج وينظر إلى المكان الذي ستقام عليه كنيسة آيا صوفيا الرمزية، ويتابع بالقول "ولذلك لـ آيا صوفيا مكانة كبيرة في العالم المسيحي وأيضاً العالم الإسلامي الأصيل الذي يعتقد بوجود الديانات، أما هذا الـ إردوغان البطاش والأرعن الذي أراد أن يعيد أمجاد أبائه وأجداده، ورغم أنه حصل على الكنيسة وحولها إلى مسجد إلا أنَّها ستبقى كنيسة الحكمة الإلهية بقوة الله سبحانه وتعالى".
وفي تموز الماضي، وبخطوة أثارت انتقادات دينية وسياسية دولية، ألغت المحكمة الإدارية العليا في تركيا المرسوم الحكومي الصادر عن الدولة التركية الحديثة عام 1934 القاضي بتحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف، استناداً إلى ما وصف بوثائق تاريخية تؤكد شراء السلطان محمد الفاتح مبنى "كنيسة" أيا صوفيا من القساوسة قبل تحويله إلى مسجد.
وعلى الفور، وقع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على مرسوم بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، مُعلنا فتحه أمام المسلمين لأداء الصلاة، وفي الـ 24 من تموز رفع الرئيس التركي الآذن في آيا صوفيا حيث أقيمت صلاة الجمعة لأول مرة منذ عام 1934، وفيما دعت عدّة دول أنقرة للتراجع عن القرار، اعتبرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن قرارَ تحويل كاتدرائية آيا صوفيا من متحف إلى مسجد قراراً متسرعاً وذا دوافع سياسية.
أما عن آلية العمل التي اتبعها هي والفريق الهندسي بوضع المخططات بالأسلوب ذاته الذي بنيت به كنيسة آيا صوفيا الأم في تركيا، فتقول "حاولنا أن نشابه الجوانب الهندسية في الكنيسة الرمزية مع الكنيسة الأم بقدر المستطاع، وبالطبع لا نستطيع تقليد الكنسية الأم والتي تعتبر تحفة فنية عالمية، لكن حاولنا قدر الإمكان أن نشابه شكل القبة إضافة إلى شكل النوافذ والجدران والهيكل الداخلي".
وتختم المهندسة حديثها لـ سبوتنيك إنه "شرف عظيم لمدينتنا السقيلبية أن تحتضن هذه الكنيسة الرمزية بكل ما تمثله من وقوف في وجه طمس التاريخ ومعالمه، ستصبح مدينتنا مزاراً معروفاً للقاصي والداني وكلّ محبٍ لـ آيا صوفيا الأم".
وكان قائد الدفاع الوطني في مدينة السقيلبية نابل العبد الله تحدث لـ"سبوتنيك" في وقت سابق، عن مضمون فكرة بناء كنسية مصغرة لكنيسة آيا صوفيا في سوريا، موضحا أن "فكرة بناء الكنيسة هي فكرة رمزية للتعايش السوري وليس لها أي مدولات سياسية، بل جاءت كنوع من الرد التذكيري وتنشيط الذاكرة بأن معلماً من التراث الإنساني والروحي لا يستطيع أحد طمسه، ورداً على الإرهاب الذي تعرضت له السقيلبية هي وغيرها من المدن والمناطق القريبة كمدينة سلحب ومنطقة الغاب ومحردة خلال سنوات الحرب السورية".
وأضاف العبد الله "الفكرة شخصية وبمجهود خاص وستبنى بأرض ملك خاص تعود إلى الأجداد الذين قاوموا الأتراك كباقي كل السوريين، وهي عبارة عن مصلى صغير، كما سيتم رفع نصبا تذكاريا للشهداء من أبناء المدينة وأبطال الجيش العربي السوري الذين ضحوا بحياتهم لأجل تحقيق الأمان لأهلنا".
يذكر أنه في عام 532م، أمر الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، ببناء الكنيسة في القسطنطينية (إسطنبول حالياً) على أنقاض أخرى تعرضت للبناء والهدم أكثر من مرة، واستغرق بناء كاتدرائية آيا صوفيا والتي تعني "الحكمة الإلهية" باللغة اليونانية خمس سنوات، وبعد اكتمال البناء، ذكر المؤرخون أنه من شدة إعجاب الإمبراطور بالكاتدرائية قال لحظة دخوله إليها: "يا سليمان لقد تفوقت عليك" في إشارة إلى النبي سليمان الذي كان يسخر الجن لإقامة الأبنية العظيمة، بحسب المرويات الدينية.
ظلت آيا صوفيا أضخم كاتدرائية مسيحية في العالم حتى بناء كاتدرائية إشبيلية عام 1520م، واستمرت مركزاً للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لأكثر من 900 عام، وبعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين عام 1453م حُولت الكنيسة إلى مسجد.
وبقيت آيا صوفيا مسجداً إسلامياً إلى أن منع مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة ورئيس الجمهورية آنذاك، إقامة الشعائر الدينية في المسجد عام 1931 قبل صدور مرسوم حكومي عام 1934 بتحويله إلى متحف فني بهدف إهدائه إلى الإنسانية.