القاهرة- سبوتنيك. تتزامن ذكرى رحيل عبد الناصر هذا العام مع فيضان تاريخي لنهر النيل، كان أثره سلبيا على السودان، ما جعل اسم عبد الناصر يتردد بقوة عشية ذكراه، فهو الذي أنشأ السد العالي لتتحول كارثة الفيضان السنوية للنيل لرصيد من المياه خلف بحيرة السد يحول نظام الزراعة الموسمية في مصر إلى نظام الري الدائم، ويولد الكهرباء لإنارة الصعيد وتشغيل المصانع. ولكن فيما يخص نهر النيل، فناصر حاضر حتى قبل موسم الفيضان، فملف سد النهضة الذي يتفاعل منذ عشر سنوات جعل العلاقات المصرية الأفريقية بعد رحيله محل مراجعة دائمة، وهي الفترة التي لعبت فيها مصر الناصرية دورا قائدا في صراع التحرر في أفريقيا.
ليست قضايا النيل ومستقبل أزمة المياه في مصر فقط ما يتزامن مع ذكرى عبد الناصر، ويجعل الفترة الناصرية مرجعية في السياسة المصرية، فقضية الصراع العربي الصهيوني، والتي خاض فيها عبد الناصر أغلب معاركه العسكرية، تلقي بظلالها على ذكراه الخمسين، فالخرطوم التي توشك أن تقيم علاقات مع إسرائيل، هي نفسها العاصمة العربية التي دوت فيها (لاءات) عبد الناصر الثلاثة في قمة الخرطوم 1967.
في هذه القمة التي أعقبت هزيمة مصر وسوريا في حرب حزيران/يونيو 1967، هتف عبد الناصر (لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض مع إسرائيل) الصرخة التي تبددت بعدها بسنوات، لتبدأ مصر بالذات بإبرام أول معاهدة سلام مع إسرائيل، ولتقف الدول العربية بعدها بنصف قرن في صف الانتظار لإقامة علاقات مع إسرائيل. الملفات المفتوحة في مصر والمنطقة العربية جميعها تجعل عبد الناصر حاضرا إما للمقارنة أو للمراجعة، سواء كانت ملفات العلاقات العربية العربية، أو ملفات السياسات الاقتصادية والاجتماعية أو ملفات الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو ملف جماعة الإخوان المسلمين.
حمدين صباحي أحد أبرز القيادات الناصرية في مصر، ومؤسس حزب تيار الكرامة الناصري يقول، لوكالة "سبوتنيك": "عبد الناصر يزداد حضورا رغم رحيله منذ نصف قرن، لأن صلب مشروعه لا زال هو محور الصراع حتى اللحظة، الشعب المصري والعربي يصارع في ثلاث جبهات بالغة الأهمية، أولى تلك الجبهات، حق الشعب العربي في استقلال قراره بعيدا عن الهيمنة الخارجية، وحقه في استرداد أرضه في فلسطين، وحقه في صياغة مشروع وحدوي عربي يضمن صيانة الاستقلال وحماية الحقوق، في كل هذه المعاني عبد الناصر حاضر، لأن هذا الطموح العربي أفضل من عبر عنه وأكثر من سعى لتحقيقه وأكثر من أنجز جزء منه حتى دون اكتمال هو عبد الناصر، حضور عبد الناصر مرتبط بحضور الصراع الذي خاضه".
ويضيف صباحي: "عندما نرى كيف يذهب حكام عرب لتوقيع اتفاقيات ما يسمى سلام مع العدو الصهيوني، بالضرورة نستحضر عبد الناصر بتناقضه الواضح مع ما ينتهجه الحكام العرب الآن، العرب الآن يكاد كل حكامهم أن يكونوا تابعين، بالكاد تجد حاكم مستقل عن الهيمنة الأمريكية، هذا ما يجعل عبد الناصر حاضر في الوعي والوجدان، حتى لو لم يذكر اسمه".
ويتابع صباحي، قائلا: "هيمنة مؤسسات صندوق النقد والبنك الدوليين، وأدوات ومؤسسات الهيمنة الاقتصادية والتي جعلت ثروات العرب منهوبة بأشكال متعددة ظاهرة ومستترة، لصالح القوى الاقتصادية الكبرى، ورضوخ الحكام العرب لشروط تلك المؤسسات، وحجم الديون التي تتراكم على الدول العربية وانعكاس ذلك على الأوضاع الاجتماعية، يجعلنا نستحضر نموذج التنمية المستقلة الناصري المناقضة لما يجري الآن".
ويستطرد، قائلا: "القضية الأخرى هي الحق في الحياة الكريمة وحماية حقوق الفقراء، وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية، وهو أيضا ما يجعل عبد الناصر حاضرا، بمحاولاته لتحقيق تنمية مستقلة وعدالة اجتماعية ودعم الفقراء".
ويقول صباحي: "من ناحية أخرى يجب أن نعترف أن عبد الناصر لم يكن مثالا يحتذى في قضايا الديمقراطية والحريات السياسية، ولن هنا عبد الناصر حاضر بشكل مختلف، فتجربة عبد الناصر في السياسة والتنمية والتحرر الوطني كان ينقصها الديمقراطية، وربما من أسباب عدم استمرارها في الحكم وغياب المشروع بعد غياب المؤسس هو غياب الديمقراطية، انهيار جمهورية الثورة التي أسسها عبد الناصر كان من أسباب تداعيه غياب الديموقراطية التي كان يمكن أن تحمي المشروع".
الكاتب والسياسي أسامة الغزال حرب، والذي لا ينتمي للتجربة الناصرية وله الكثير من الانتقادات عليها يرى أيضا أن تأثير عبد الناصر في الحياة السياسية المصرية ما زال ممتدا إلى الآن، ويضيف في تصريحات لوكالة "سبوتنيك": "للأسف الأجيال الجديدة لا تعلم الكثير عن التجربة الناصرية، وهو ما يرجع إلى قصور في التعليم والثقافة والمعرفة، ولكن من حيث استمرار تأثير عبد الناصر هناك تأثير لا زال ممتد إلى اليوم".
ويضيف حرب: "عبد الناصر له الكثير من الإنجازات العظيمة بالطبع، ولكن له أيضا أخطاء كارثية، ولكن في كل الأحوال عبد الناصر له وزن خاص في التاريخ المصري الحديث، كما أن له مكانة خاصة جدا في الوجدان المصري".
ويتابع: "من أخطاء عبد الناصر الفادحة، أنه لم يستكمل المسار الديموقراطي الذي بدأته مصر قبل 1952، كان في مصر نظام ديموقراطي بالفعل قبل 52 وكانت هناك أحزاب سياسية متنوعة ومن كافة الاتجاهات، كانت هناك تعددية حقيقية، عبد الناصر قضى على الأحزاب والتعددية، وبنى نظام سياسي أحادي".
ويستطرد حرب، قائلا: "عبد الناصر جاء في فترة خاصة وحساسة من التاريخ السياسي في الشرق الأوسط، الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وحرص أمريكا على إبعاد الدول العربية عن تأثير الشيوعية، وفي نفس الوقت كان عبد الناصر حريصا على التحرر من السيطرة الاستعمارية، وهو ما جعله يتوجه للاتحاد السوفييتي".
ويردف: "التجربة الناصرية كانت تجربة مركزية في تاريخ مصر الحديث، وهناك الكثير في تلك التجربة مما يجب تعلمه اليوم، وأهم ما يمكن استخلاصه من تجربة عبد الناصر أن غياب الديمقراطية عواقبه وخيمة".
ويؤكد حرب أنه "على الرغم من أهمية المشروع الناصري في التاريخ المصري الحديث، إلا أنه من الصعب إعادة إنتاج المشروع اليوم، هناك مبادئ عامة، مثل الاستقلال الوطني، وهناك العدالة الاجتماعية، ولكن بناء مشروع سياسي على زعامة فردية أمر غير ملائم اليوم، كان مشروع الزعامة الفردية مناسب في مرحلة التحرر الوطني، ولكن اليوم تغير الكثير، وأي مشروع جاد لا يجب أن يقوم على زعامة فرد أيا كان هذا الفرد".
ويعد جمال عبد الناصر أبرز زعماء مصر والمنطقة العربية في العصر الحديث، ولد في كانون الثاني/يناير 1918، وتخرج في الكلية الحربية ليلتحق بالقوات المسلحة عام 1938، خاض عبد الناصر أولى حروبه ضد إسرائيل في 1948 وحوصر مع فرقته بالفالوجة في فلسطين.
وعقب الحرب بدأ عبد الناصر في تأسيس تنظيم (الضباط الأحرار)، وكان الزعيم الفعلي للتنظيم الذي نجح في الإطاحة بالملك فاروق، وإنهاء حكم أسرة محمد علي في مصر وتأسيس الجمهورية. لعب عبد الناصر دورا مهما في دعم حركات التحرر الوطني في المنطقة العربية وأفريقيا، كما لعب دورا هاما في تأسيس كتلة عدم الانحياز، مع زعماء الهند ويوغسلافيا في ذلك الوقت.
وتأكدت زعامة عبد الناصر عقب قراره تأميم قناة السويس وتصديه لهجوم كلا من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر والذي عرف وقتها بالعدوان الثلاثي عام 1956. انتهج عبد الناصر إلى جانب سياسة التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار، سياسة اجتماعية معتدلة هدف من خلالها إلى بناء دولة حديثة وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية، وهوجم عهد عبد الناصر بسبب غياب الديمقراطية والتعددية السياسية، وهيمنة حكم الفرد والاستبداد. توفي عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970، عقب القمة العربية الطارئة التي عقدت في القاهرة على خلفية اشتباكات بين الفصائل الفلسطينية والقوات الأردنية في الأردن ما عرف وقتها بأحداث أيلول الأسود.