في بيت عربي قديم على ضفة نهر الجغجغ في أطراف حارة طي في مدينة القامشلي شمالي محافظة الحسكة، والذي يتواجد في كل زاوية منه قصة وذكرى لأجيال خلت، يعمل ميخائيل أو ( أنطو) كما يحب أن يلقب على تجهيز المعجون الطري، بعد خلط التراب بالماء بطريقة فنية، ومدى جاهزيته ليباشر العمل بصناعة الفخار الجديدة بأنواعه وإشكاله المختلفة.
يعتلي أنطو منصة الدولاب الدائري (الذي بلغ عمره التسعين عاماً) الذي ورثه والده عن جده، ويتحكم في العجينة لتصبح طيعة بين يديه المجهدتين، ويديرها كيفما شاء في كل اتجاه في عملية سيطرة مذهلة، اعتمادا على حنكته في هذا الفن منذ أن كان في العاشرة من العمر، ورغم أن الطلب قليل على المصنوعات من الفخار خلال الفترة الحالية حسب أنطو إلا أن حب هذه المهنة ومتعة العمل بها يحول دون الانتقال لعمل آخر.
من الطين إلى النار
يوضّح أنطو ميساك بيدروسيان لمراسل "سبوتنيك" في الحسكة طريقة وأسلوب العمل في صنع الفخار، قائلاً "نقوم بجلب التراب من المناطق القريبة من الحدود السورية - التركية شمالي القامشلي، كون عملنا يحتاج لنوعية تراب محددةٍ تُسمى "البيلون" أو الصلصال، وبعدها نقوم بفرزه وجبله بآلة تدعى" الجبالة " وغربلته في بركة صغيرة لفرز الحجارة والأعواد منه، كون التراب يجب أن يكون نظيفاً ويشبه المعجون.
يتابع أنطو "تتم عملية الفرز خلال أيامٍ لأنّه يحتاج إلى الشمس أيضاً ليجف قليلاً، ثم تتم صناعة الأواني المتنوّعة التي تُترك لتجف داخل الغرف كون أشعة الشمس القوية تسبب في تشققها، وبعد أن تجف بشكلٍ كاملٍ ،توضع الأواني الفخارية في المرحلة الأخيرة من صناعتها داخل فرن ناري مصنوع من الطين الجاف يعرف "بالقمائن"، تبدأ فيه درجات الحرارة من ستين درجة، وترتفع تدريجيا لتصل إلى 1200 درجة، ويترك الفرن مغلقا لمدة يوم، ويتم تزيين الأواني الفخارية بعد إخراجها من الفرن وتبريدها بأصباغ طبيعية، وتزركش الرسوم الأواني الخاصة بالطهي والمزهريات والتماثيل وأواني حفظ الأغذية وتبريد الماء.
هموم وصعوبات
ويلفت أنطو بيدروسيان إلى أن عملهم متوقف حالياً على الطلبيات التي تأتي لهم من الزبائن وأغلبها تكون الأواني الخاصة بالماء وحصالات النقود والتنور وحافظات الماء الكبيرة وتعتمد الجودة على البيلون أو الصلصال.
ورغم هموم المهنة وقلة مردودها المادي يتمسك ( انطو) وإخوته بها ولم يتخلوا عن متابعة صناعة الفخار باعتباره تمثل لهم ارث حضاري وثقافي وإنساني كبير، ويقول أنطو إن السبب وراء تعلقه بهذه المهنة هو الحفاظ على إرث أجداده، ناهيك عن كونها مصدراً للرزق.
وعن الصعوبات التي تتمثل في قلة الإقبال، يبين أنطو لــ "سبوتنيك" في السابق كنا نصنع الأواني الفخارية للمونة والماء، لكن خف الطلب عليها حالياً بعدما ظهرت الأواني الزجاجية والبلاستيكية، عملنا الآن يقتصر على حصالات العملة الخاصة بالأطفال وقطع الزينة، وعلى صناعة مجسمات (التنور) الريفية والتي عادت للرواج مجدداً في المنازل الريفية وفي المدينة نتيجة ظروف الحرب والحصار.
ويصنع التنور من الطين الحر أي الصلصال حيث يحضر الطين ويخلط جيداً ويخمر، حيث يصنع من هذا الطين حلقات بقطر حوالي 1 متر وبارتفاع حوالي 20 سم وسمك نحو 3 سم تترك لتجف يعمل من هذه الحلقات العدد وبأقطار تشكل مع بعضها ( التنور ) والذي يكون بارتفاع كلي 1 - 1,5 متر حيث يتم تركيب هذه الحلقات فوق بعضها لتكون الشكل النهائي للتنور وتترك لتجف تحت أشعة الشمس، ليستخدم في صناعة الخبز عبر حرق الخشب في داخله.
مسيرة العائلة
هُجِّرت عائلة بيدرسيان التي يرجع موطنها الأول إلى مدينة "صاصون" والتي تقع على الحدود التركية الأرمنية الإيرانية، عقب المجازر الأرمنية التي ارتكبتها "الدولة العثمانية" بحق الأرمن والسريان عام 1915م (مجازر سيفو)، حاملةً معها صناعة الفخار، لينتهي بها الحال في مدينة القامشلي، منذ 105 أعوام، وكان الشيءُ الوحيدُ الذي تتقنه العائلة هو العمل في الفخار والخزف.
حيث تنقل أفراد العائلة كثيراً وصنع الفخار في كثيرٍ من المدن السورية مثل الرقة ودير الزور والبصيرة والبوكمال والميادين وبعض مدن العراق، بالإضافة لمشاركتهم الدورية في معرض دمشق الدولي، حيث عين ميساك بيدروسيان ( والد أنطو ) كخبير المنطقة الشرقية للآثار، حيث كانت هوايته البحث عن الفخاريات القديمة وجمعها.
الخوف من زوال المهنة
تخشى عائلة ( بيدروسيان) أن يكون مصير مهنتهم كغيرها من المهن الأخرى إلى الزوال، داعين إلى التمسك بتراث الآباء والأجداد، التي لم يعد يمتهنها في المدينة غير عائلتهم، وبضرورة زيادة الاهتمام بهذه المهنة الأصيلة المهددة من قبل الجهات المعنية، من خلال تمويل المشاريع الخاصة بهذه المهنة والمساهمة بإنتاج الفخاريات لما تمثله هذه المهنة من جدوى اقتصادية كبيرة في حال تسويقه في الأماكن السياحية.