ترتصف حجارة شارع القيمرية الرمادية التي تخالطها الأنوار الصفراء المنعكسة على بقع المطر الناعم ابتداءً من حي باب توما شرقاً، إلى منطقة النوفرة غرب الجامع الأموي، ومن حارة الجورة شمالاً، إلى أسواق مدحت باشا والخياطين جنوباً.
تتباين حكايات السكان عن أصل تسمية الحي، فبعضهم ينسبه إلى شيخ يُدعى "قيمر" عاصر زمن الدولة الأموية، فيما آخرون يقولون أنَّها مشتقة من "المدرسة القيمرية الكبرى" التي أنشأها الأمير الأيوبي ناصر الدين الحسين بن عبد العزيز القيمري الكردي، أما البعض الآخر فيرجعه لتسمية المنطقة "آيا ماريا"، نسبة للكاتدرائية المريمية التي يعود تاريخها لقرون المسيحية الأولى، ومع مرور الوقت تحول إلى "القيمرية".
هنا، حيث يختبئ أحد أسرار الحياة الدمشقية، يقود صخب الناس إلى الحارات الضيقة والزواريب، فيستند المارة والزبائن على الجدران، بدءاً من باب "جيرون" أحد أبواب معبد "جوبيتر" العائد للحقبة الرومانية، فالكنيسة المريمية أحد أقدم كنائس الروم الأرثوذكس في العالم، إلى الزاوية السعدية وحمام "البكري"، فحمام "نور الدين الشهيد"، سوق الخياطين، سوق البزورية، خان أسعد باشا، خان السفرجلاني، وصولا إلى مكتب عنبر. ويبدو أن الجدران هي التي تقطر الهمس وكأنه ينز من ببين الحجارة العتيقة.
تلك الحجارة نفسها التي تزينها رسوم بورتريه لزياد الرحباني وجورج وسوف، تشي جيفارا، فيروز، صباح فخري، أم كلثوم، فريد الأطرش، وغيرهم، حيث يمكن للمارة شراء رسوم تذكارية أو مشغولة يدوياً أو منتوجات تقليدية كالتحف النحاسية وقطع السجاد المزركشة.
في الأزقة الجانبية للحي، تتمدد المقاهي التي عادةً ما تتوسطها "نافورة الماء" في البيوت الشامية العتيقة التي تحولت لاحقاً لمقاهي، هنا يمكن للزائرين أن يلتقطوا رائحة القهوة، وفي الساعات الأقل ازدحاماً لا بد أن يسترقوا السمع لنغمات أغاني فيروز التي يصدح صوتها في الأرجاء يومياً منذ أكثر من عقدين.
الفجر، الصباح، الظهيرة والليل، لها الطابع نفسه دائماً لكن مع اختلاف الهواء، فهنا يبدل الهواء لون الأشياء، رائحتها، وطعمها! فيتجمهر طابور طويل صباحاً أمام بسطة كروسان القيمرية، وهم يشاهدون جزءاً من داخل الفرن والبسطات المرفوعة عن الأرض. يشاهدون كيف تأتي صواني الكروسان الاثنتين إذ لا تتسع البسطة لأكثر من ذلك.
على بسطة صغيرة بمحاذاة المارّة، يتحدث وسيم سنان، صاحب محل بوظة على الصاج، لـ "سبوتنيك" عن إعداد هذا النوع من البوظة، حيث يمكنه تقطيع الشوكولاتة والفواكه الطبيعية وخلطها وإضافتها إلى منتجه بحسب رغبة الزبائن، مبيناً أن "البوظة على الصاج" طريقة تركية المنشأ لكنه تعلمها عبر الإنترنت، وبات يبتكر النكهات المختلفة.
شرائح البطاطا المقلية، سلطة الذرة بالجبنة، أطباق البيتزا ومعكرونة البشاميل الصغيرة، سندويشات البرغر والفلافل والشاورما، الخيارات هنا عديدة ما بين أطباق تستوقف المارة على امتداد الشارع ولا تستنزف جيوبهم.
التحلية أيضاً لها نكهة خاصة، بدءاً من محلات البوظة على الصاج، شاورما الشوكولاتة، وجبات السيريلاك، قطع الوافل والغوفر، وليس انتهاءً بأطباق الكنافة وأكواب العصائر والليمون الجامد.
محمد خندقاني، صاحب محل شوكولا غوفر، يؤكد أن "الغوفر" وجبة شتوية بامتياز، يتم تحضيرها من الشوكولا الساخنة بعدة أشكال، كما يمكن إضافة نكهات مختلفة لها كالفانيليا والشوكولاتة.
وليس الأطباق التي يمكن ابتلاعها فقط، بل الأسعار كذلك، وهو ما يدفع الملتزمين بحمية غذائية للإحجام عن المرور في القيمرية، فعلى طول 200 متر في هذا الشارع، قد يكلفك تذوق كل هذه الأصناف نحو 4500 سعرة حرارية، منها 400 سعرة حرارية للكروسانة الإجبارية، و300 سعرة لرقائق البطاطا التي لا تقاوم، كما تخبئ البوظة على الصاج 250 سعرة حرارية، وتنافسها شاورما الشوكولا بـ 500 سعرة دفعةً واحدة، وتضيف كل من سندويشات الشاورما أو الفلافل نحو 500 سعرة حرارية أيضاً، فيما تتفاخر الحلويات بالسعرات الأعلى، فتضيف وجبة السيريلاك والغوفر والوافل نحو 400 سعرة حرارية لكل منها! وإذا حالفك الحظ وتذوقت جميع الأصناف ربما تفقد منها 100 سعرة حرارية خلال مسيرك!
بتول حاج، مغتربة سورية، لم تنجح بإخفاء ابتسامتها فيما تتوجه لزيارة القيمرية فور عودتها لدمشق، وقالت لـ "سبوتنيك": "هنا يمكنك أن تشعر بروحانية شديدة، يمكنك أن تجد المأكولان اللذيذة المختلفة، والأجواء الساحرة، أنصح الجميع بالقدوم إلى هنا"!
"القيمرية" أكثر من مجرد شارع، فهنا يتآلف المرء مع المكان عبر ذكريات رواده، حنينهم وزفراتهم المتقطعة، ويحمل معه في الأزقة الضيقة عيون كل من مروا، أفكارهم، مشاعرهم، وأحلامهم.