"ملكت الدنيا حين وصلت إلى بلدي"، يقول أبو أكرم لـ "سبوتنيك"، و"بلدي" في لهجة ريف الشام، تشير إلى مسقط الرأس سواء أكان قرية أو مدينة.
قبل تحريرها، كانت دوما مدينة مغلقة تماما كما معظم بلدات الغوطة الشرقية لدمشق، القليل الذي اشتهرت به هذه المدينة الريفية، يتلخص يما كانت تنشره المجموعات الإرهابية المسلحة التي تسيطر على أحيائها، ووفق ذلك، لا تغادر ذاكرة السوريين تلك الاستعراضات المبالغ بها في إظهار ما تستحوذ عليه تلك المجموعات من دبابات وصواريخ وأسلحة ثقيلة متنوعة، كرسائل فجة لجيرانهم من سكان العاصمة.
لم ينافس شهرتها في هذا النوع من الاستعراضات، سوى استعراض آخر أكثر فجاجة تجلى بوضع مئات المختطفين من النساء والرجال والأطفال، ضمن أقفاص حديدية والسير بهم في أحياء دوما، في رسالة سادية قلما عايشت البشرية مثلها في العصور الحديثة.
يتذكر الحاج أبو أكرم، واسمه محمد حسن المنفوش، عودته إلى مدينته بشغف مشوب بالنشوة: "خرجت من دوما عام 2016، وكانت العودة إليها مثل الحلم"، مضيفا: "حين عدت إلى بلدي، وإلى منزلي الذي خرجت منه هاربا في عام 2016، كنت أول من دخل إلى المدينة بعد أن حررها الجيش، قطعت الطريق من دمشق سيرا على الأقدام، كان ذلك بعد اسبوع من انتهاء المعارك".
قضى أبو أكرم الأيام الخمسة الأولى في منزله وحيدا: "حين وصلت، كان كل شيء مختلف عن حاله حين خرجت، المحال والشوارع والمنازل.. كانت السواتر الترابية التي أقامتها المجموعات المسلحة تغطي شوارع المدينة وتقاطعاتها وساحتها، وتصل في ارتفاعها إلى الطوابق الأولى من الأبنية".
وبعد خمسة أيام من حملة تطهير المفخخات والتشريكات، يضيف أبو أكرم: "بدأت الورش الفنية لمحافظة ريف دمشق بالدخول إلى المدينة.
في نيسان 2018، تم ترحيل المجموعات الإرهابية الرافضة للمصالحة إلى منطقتي إدلب وجرابلس (السورية)، كل حسب ولائه: سواء لتنظيم اللقاعدة (المحظور في روسيا)، أو لتركيا (التركمان).
مذاك، مر على تحرير دوما والغوطة الشرقية 3 أعوام، إلا أن مؤسسات الخدمات الأساسية لم تعد إليها حتى الآن.
يلخص الحاج أبو أكرم الاحتياجات الملحة لسكان مدينته بـ 3 مطالب، الأول: المشفى الوطني، وإن لم يكن فعيادات طبابة شاملة مجانية أسوة ببقية المناطق المحررة، وهذا أكثر المطالب إلحاحا نظرا للغلاء الفاحش للطبابة في القطاع الخاص.. وإلى جانب ذلك يحتاج السكان إلى عودة المخابز الآلية، ومؤسسة خدمات البريد".
يستهجن الحاج أبو أكرم الأسباب التي يبتدعها المسؤولون المحليون لتأخر عودة البنى التحتية الأساسية، وخاصة المشفى الوطني: "يقولون ليس هناك من كادر طبي!، يستطيعون إعادة الكادر السابق، ليس الأمر صعبا لهذه الدرجة".
في ذاكرة أبو أكرم ما قبل الحرب، كانت دوما قبلة تجار السلع الزراعية كما محبى الطبيعة: "كانت جنة دمشق، أرخص المدن، ودرة الغوطة، ليس فيها مكان تسير فيه إلا تحت ظل الأشجار المثمرة".. "قبل أن يرحلوا"، يضيف أبو أكرم في إيماءة إلى مسلحي التنظيمات الإرهابية: "أحرقوا أشجار المشمش والزيتون".
مساء أمس الجمعة، شارك الحاج أبو أكرم في احتفالية محلية أقامها سكان المدينة احتفاء بالانتخابات الرئاسية السورية المزمع إقامتها في 26 أيار الجاري.
لا ينكر أبو محمد انحيازه للرئيس السوري بشار الأسد كخيار أول في الانتخابات، ووفق الأمثال الشعبية لسكان الريف الدمشقي، يقول لـ "سبوتنيك": "اللي بتعرفو أحسن من اللي بتتعرف عليه، أنا أعرف الرئيس بشار الأسد، هو إبن البلد وابن الشعب، أعرف أخلاقه وتواضعه ودعمه للقضايا العربية، أعرف دعمه للمقاومة، وأتمنى من الله أن يكون الفائز في الانتخابات".
يضيف الحاج الدوماني إلى أسباب اختياره للرئيس الأسد: "لأنه حرر لنا دوما".
عامر خيتي، عضو مجلس الشعب السوري، كان قد عاد إلى سوريا من بلاد الاغتراب إبان تحرير مدينته دوما، متطلعا إلى المساهمة في إعادة إعمارها.
يقول خيتي: "بعض ضعاف النفوس غرروا بالكثير من يافعي المدينة ودفعوهم إلى حمل السلاح.. ذاك زمان مضى، اليوم، عاد نحو 70 إلى 80% من سكان المدينة، وقاموا بترميم منازلهم ومزارعهم ومنشآتهم الصناعية".
حول جهوده كنائب في البرلمان السوري في إعادة من اختاروا الرحيل إلى شمال سوريا بعد رفضهم للمصالحة التي أعلنتها الدولة السورية، يؤكد خيتي: "منذ وصولهم إلى الشمال السوري، تعرضوا لأبشع أنواع القهر في مناطق سيطرة التنظيمات المسلحة، معظم من ذهبوا يتمنون العودة (أمس وليس اليوم) إلى مدينتهم"، في إشارة منه إلى تطلعهم للعودة إلى حياتهم ومدينتهم بأسرع ما يكون.
يوضح خيتي: "هناك من يثير مخاوفهم من العودة.. ويقول لهم بأنهم سيتعرضون للاعتقال وما إلى ذلك من أساليب التخويف"، وإلى جانب الآثار المعيشية الكارثية للحصار الاقتصادي ودورها في تأخير عودة المهجرين واللاجئين إلى مدنهم وبلداتهم، تحاول الكثير من الدول إثارة المخاوف الأمنية لمنع عودة هؤلاء، ولا يشذ مسلحو دوما وعائلاتهم عن هذه القاعدة.
"دون خوض في التفاصيل"، يؤكد عضو مجلس الشعب السوري باقتضاب: "هناك نحو 4 إلى 5 آلاف شخص يتم دراسة أوضاعهم بدقة لضمان عودتهم السلسة ودون أي تأخير إلى دوما من شمال سوريا".
على هامش احتفالية الانتخابات الرئاسية السورية التي تقيمها مدينته دوما، قال خيتي لـ "سبوتنيك": "يتخذ الاستحقاق الدستوري أهمية استثنائية في الغوطة الشرقية، الانتخاب حق وواجب لكل سكان الغوطة، وعلى كل مواطن اختيار مرشحه لرئاسة سوريا".
لا يخفي النائب خيتي هو الآخر، اسم مرشحه لرئاسة الجمهورية، مجيبا عن ذلك بتساؤل مقتضب: "من حمى سكان الغوطة من الإرهاب؟ ومن حرر مدنهم من المسلحين؟ سنكون جميعا عند صناديق الاقتراع".
من جهته، عبد اللطيف طالب، وهو مختار مدينة دوما، يؤكد أن الانتخابات الرئاسية تتخذ بعدا استثنائيا في الغوطة الشرقية ومدينته دوما على وجه الخصوص.
بحسرة ممزوجة بالإصرار، يستعيد طالب التاريخ القريب لمدينته، مؤكدا لـ "سبوتنيك": هذه المدينة التي عانت ما عانته من الإرهاب.. المدينة التي شهدت فبركات وتمثيليات غريبة عجيبة، (قاصدا مسرحيات استخدام الأسلحة الكيماوية)، ستؤكد للعالم أجمع والدول التي منعت إجراء الانتخابات على أراضيها، أنها ستشارك بكل سكانها، وستقدم النموذج في هذا الاستحقاق الدستوري".