من جريح إلى جراح.. جندي سوري يخوض حياة مفعمة بالتصميم والحب والتكافل
© Sputnik . Shams Melhem
تابعنا عبر
حصري
استيقظ ماهر الشيخ ذات مساء من عام 2013، وهو يتحسس جسده قطعة قطعة تيقنا من أنه لا يزال على قيد الحياة.
قبل ذلك بأيام، كان ماهر في مهمة قتالية لمداهمة مجموعة إرهابية من تنظيم "جبهة النصرة" في منطقة (بساتين برزة) على الأطراف الغربية للغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، تعرض خلالها إلى إصابة بليغة تهتك معها جسده بـ 8 طلقات نارية من مسافة قريبة.
اليوم، كلما سنحت له الفرصة، يجلس الشاب إلى جهاز القراءة الخاص به ليستعيد لحظات إصابته عبر مقطع فيديو وثقه أحد زملائه، تفاصيل هذه اللحظة الرهيبة التي امتدت فيها إليه يد القدر، لطالما أعانته على إعادة رسم حياته وتوجيهها، ليصل اليوم السنة الأخيرة في كلية الطب البشري.
الشاب ماهر، الذي ترك دراسته واختار الالتحاق بصفوف الجيش العربي السوري إبان اجتياح المجموعات الإرهابية لمناطق الريف القريب من دمشق، عاد من الموت ليبدأ بعدها رحلة كفاح طويلة مع تحديات الحياة.
فريق "سبوتنيك" وصل بمشقة إلى بيت ماهر الشاب الجريح الذي بات قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح طبيبا جراحا.
عند عتبة منزله المتواضع في منطقة (مزة 86) على أطراف دمشق الغربية، يقف ماهر على عكازه بمساعدة زوجته للترحيب بضيوفه، في هذه المنطقة العشوائية التي تتجلى فيها قصص الشبان الذين قضوا دفاعا عن وطنهم.. وكما في كل أرجاء سوريا، تسكن صور هؤلاء الأبطال بوضوح جدران منازل أزقتهم المتعبة، مجسدة ذكراهم الحية.
بعد استراحة قصيرة، ينزع ماهر عكازه الذي أصبح قطعة من حياته، ليحدثنا عن تحديه لإصابته التي يعدها وسام شرف على جسده: "لا شيء مستحيل، نحن من نحكم الظروف لا هي"، بهذه العبارة استهل قصته لـ "سبوتنيك"، مكملا بنبرة لا تخلو من الفخر: "اليوم أنا على أعتاب التخرج من كلية الطب البشري بدمشق".
من جريح إلى جرّاح.. جندي سوري يخوض حياة مفعمة بالتصميم والحب والتكافل
© Sputnik . Shams Melhem
الجريح.. طبيبا
بعزيمة بادية على ملامحه، يكمل ماهر: "التحقت بصفوف الجيش العربي السوري بعد وصول المجموعات الإرهابية إلى تخوم المناطق السكنية، وفي إحدى العمليات القتالية تعرضت لإصابة مركبة: عظمية مفاصل وأوعية، والإصابة الأكبر كانت عصبية كما تفتت مفصل القدم وانقطعت التروية تماما عن الطرف السفلي، بالإضافة إلى قطع في العصب الوركي".
يتابع الشاب: "فتحت عيني لأجد نفسي في المستشفى، تحسست جسدي لكنني لم أشعر بساقي، علمت حينها أنني دخلت مرحلة جديدة من حياتي، مرحلة تحتاج الصبر والقوة والإرادة، لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، لقد كان والدي الداعم الأكبر لأستطيع تجاوز بوابة حياتي الجديدة".
عندما فتح عينيه في المشفى، لقي ماهر نفسه وهو محاط بفريق من الأطباء والممرضات.. يصف شعوره آنذاك، قائلا: في تلك اللحظة بالذات، سرت في عقلي ومضة تشبه الإلهام، وبدأت أحلم بأن أكون طبيبا يساهم في إنقاذ حياة الآخرين تماما كما فعل هؤلاء".
بعد عامين كاملين من رحلة العلاج، غادر مصاب الحرب المشفى والحياة السابقة التي عاشها نحو مرحلة جديدة تعددت فيها طموحاته، فتقدم لامتحانات شهادة التعليم الثانوي مرة أخرى، وبفضل إصراره، نال ذلك الحلم الذي أومض خلال وجوده في المشفى، ملتحقا بكلية الطب البشري في جامعة دمشق.
من جريح إلى جرّاح.. جندي سوري يخوض حياة مفعمة بالتصميم والحب والتكافل
© Sputnik . Shams Melhem
الحب إكسير الحياة
تجربة الجندي الشاب الجريح، الأيل ليصبح جراحا في مستقبل قريب، تؤكد مجددا بأن في داخل كل منا نحن البشر، قوى كامنة، ينبغي علينا اكتشافها والتسلح بها في مواجهة تحديات الحياة، ومن نافل القول، بأن بعض الأكاسير المجربة لإطلاق هذه الكوامن، لتصبح أكثر صلابة، هو (الحب).
جمع الجندي السابق قصة عشقه للشابة الجميلة "رشا عبود"، لتتكلل هذه العلاقة بزواج أثمر طفلا أسمياه "ألكسندر".
تقول رشا: “رغم إصابة ماهر، إلا أنه يتحمل مسؤولية العائلة بالكامل، يقدم الدعم لي ولـ "إسكندر"، ناهيك عن طاقته الإيجابية الفريدة التي تشع في منزلنا.
لم يتمكن ماهر من التوفيق بين عمله وبين دراسته الجامعية التي تحتاج تفرغا معظم الوقت، هذا الأمر دفع رشا للعمل بجد لمساعدته في تحقيق حلمه ومتطلبات دراسته.. تقول رشا: الحب قوة خارقة تجعلنا نصنع المعجزات.
من جريح إلى جرّاح.. جندي سوري يخوض حياة مفعمة بالتصميم والحب والتكافل
© Sputnik . Shams Melhem
أستاذ جامعي عظيم
يشعر ماهر بالامتنان لما يسّره له الله من حب احتضنه في جميع مفاصل حياته، فلولا ذلك، لنجحت الظروف القاسية التي يعيشها عموم السوريين جراء الحصار الغربي، في سحق طموحات هذا الجندي الجريح بدراسة (الطب البشري) الذي يتطلب تكاليف كبيرة.
فإلى جانب والده وزوجته، ثمة أشخاص آخرون لا يقلون تكافلا وحبا وفرادة وعظمة، كأستاذه في كلية الطب البشري، الذي لم يكف عن مساعدته في تأمين مصاريف الدراسة المكلفة.
يقول ماهر: أستاذي الطبيب، لم يتوقف عن مساعدتي يوما خلال سني دراستي الستة، ولا عن مساعدة زملائي المحتاجين الذين لا يستطيعون تأمين نفقات دراستهم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها معظمنا.
كما يشعر ماهر بالامتنان لبرنامج "جريح الوطن" الذي يعنى بجرحى الجيش العربي السوري، لما يقدمه من مساعدة مالية رمزية لجرحى الحرب، مضيفا قوله: "مع التكاليف الباهظة التي تتطلبها دراسة الطب البشري، تصبح تلك المساعدة أقرب للرمزية، وأتمنى لو كان المبلغ يغطي إحتياجاتي الدراسية كلها".
مع هذا الواقع الاستثنائي من التكافل المتشعّب، يشعر ماهر بالقوة، مؤكدا: "الحب أيضا هو دافع أساسي لتحقيق الأحلام، حتى ألكسندر يقوم باستقبالي عندما أعود إلى المنزل هذه اللحظات تجعل مني أبا قويا".
من جريح إلى جرّاح.. جندي سوري يخوض حياة مفعمة بالتصميم والحب والتكافل
© Sputnik . Shams Melhem
حلم "جريح"
كل يوم، يساور الشاب الجريح ذلك الحلم الذي أومض في ذهنه وهو ممدد على سرير المشفى، وها قد بات الجريح قاب قوسين أو أدنى من أن ينقلب جرّاحا.
يقول ماهر: أعمل الآن على مشروع تخرجي من كلية الطب، وأريد أن أكون طبيبا متخصصا في طب الأطفال لأنني أشعر برغبة جارفة في مساعدتهم على الشفاء من أمراضهم الصعبة.
يؤمن الشاب ماهر بأن الأطفال يستحقون رعاية خاصة في ظل الظروف الصحة الصعبة التي يواجهها وطنه: "أشعر برغبة عميقة في دعمهم للتغلب على التحديات الصحية التي تواجههم، ناهيك عن أني أحب التفاعل مع الأطفال والعمل معهم، فأنا أستمتع بإيجاد طرق إبداعية لجعلهم يشعرون بالراحة والسعادة خلال فترة العلاج، وأتطلع إلى تقديم الرعاية الطبية بشكل شامل وشخصي لكل طفل قد يقصدني طلبا للمساعدة".
الأحلام تتحقق
ليس تحقيق الأحلام بسهولة الحديث عنها، إلا أنها تتحقق بالفعل كما يؤكد ماهر الجريح، وهذا يعود إلى إيمان عميق والتزام بالذات البشرية وقوتها الكامنة.
عبر "سبوتنيك"، طلب ماهر إيصال مختزل تجربته مع تحقيق حلمه، إلى أقرانه من جرحى الحرب قائلا: "ركزوا على الأشياء التي لا تعيقكم الإصابة عن فعلها بشكل جيد، ولا تسمحوا لإعاقتكم أيا كانت، أن تمتد إلى أرواحكم، تذكروا دائما أن الإيمان يفعل المستحيلات".
