ولم تفلح أي من الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، على اختلاف طبيعتها ومكوناتها وبرامجها، في إطفاء لهيب الاحتجاجات التي تزداد وتيرتها بشكل سنوي في مختلف ربوع الجمهورية التونسية، والتي عادة ما يكون التشغيل والتنمية شعارها الأساسي.
وكشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية) في تقرير حديث له، أن عدد الاحتجاجات خلال شهر آب/أغسطس المنقضي بلغ 397 تحركا احتجاجا أي بمعدل 12 احتجاجا في اليوم.
ويمثل العاطلون عن العمل، وفقا للتقرير الحقوقي، الفاعل الأساسي في الاحتجاجات بنسبة بلغت 45%، يليهم أصحاب الشهادات العليا بـ 20%، ثم العمال بـ 17% فيما يتوزع باقي المحتجين على الأهالي والفلاحين وعمال الحضائر.
تراجع سلبي
ورغم أن معدل الاحتجاجات سجل تراجعا مقارنة بالأشهر الماضية من العام الجاري إلا أن العدد يعتبر مرتفعا نظرا لتزامن هذه التحركات مع تشكيل الحكومة الجديدة ومع موجة ثانية لفيروس كورونا شهدت أوجها خلال شهر أغسطس 2020.
وفي هذا الصدد، قالت منسقة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، نجلاء عرفة، في تصريح لـ "سبوتنيك"، إن "تراجع منسوب التحركات الاحتجاجية والاجتماعية لا يعكس تحقق مطالب المحتجين، وإنما مرده تزامن الاحتجاجات والاعتصامات مع حالة عدم الاستقرار الحكومي".
وأضافت أن حكومة تصريف الأعمال التي كان يقودها إلياس الفخفاخ أجّلت النظر في مطالب المحتجين إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة بحجة أنها حكومة "مستوفية الصلاحيات" ولا يمكنها اتخاذ أي قرارات، وأن الحكومة الجديدة ستستخدم بدورها الحجة المتعارف عليها وهي أنها لن تكون معنية بالالتزام باتفاقيات وقعتها الحكومة التي سبقتها.
واعتبرت عرفة أن الإشكال الحقيقي الذي يقف وراء استمرار التحركات الاحتجاجية والاجتماعية هو بحث حكومات ما بعد الثورة عن حلول ترقيعية غير قادرة على اقتلاع الأزمة من جذورها.
وقالت عرفة إنه بالرغم من تزامن شهر أغسطس 2020 مع موجة ثانية لفيروس كورونا، إلا أن التحركات الاحتجاجية لم تهدأ في الشارع التونسي، وأكدت أن سبب ذلك هو عدم وعي المحتجين بخطورة الوضع الوبائي وبالنظر إلى كونهم مازالوا يعانون من مخلفات الجائحة الأولى التي خلقت هشاشة اجتماعية واقتصادية حادة وخلقت طبقة جديدة من المهمشين ممن أفقدتهم الكورونا عملهم.
وأضافت محدثتنا "هؤلاء لا يعبئون إن كان الموت عن طريق الوباء أو عن طريق الوباء"، متوقعة أن يرتفع منسوب الاحتجاجات مع بداية عمل الحكومة الجديدة، مؤكدة أن العديد من الحركات الاجتماعية أصدرت بيانات تعلن فيها عن حشد منظوريها للتحرك في الشارع من جديد.
العطش محرك أساسي للاحتجاج
وعن الأسباب التي تقف خلف التحركات الاحتجاجية، قالت عرفة إن المطالب ذات الخلفية الاجتماعية تمثل 43% من مجموع المطالب، تليها المطالب الاقتصادية بـ 28%، أي ما مجموعه 71% من مسببات الاحتجاج.
وبيّنت عرفة أن العطش تحوّل خلال الأشهر الأخيرة إلى محرك أساسي للاحتجاج، وهو ما دفع الأهالي إلى غلق الطرقات كشكل من أشكال التعبير عن رفضهم لاستمرار المعاناة.
وأضافت أن غياب المياه أو انقطاعها سواء الصالحة للشرب أو مياه الري، أصبحت مشكلة سنوية وشاملة بعد أن كانت موسمية تهم جهات معينة ويرتبط حدوثها بحلول فصل الصيف.
وأشارت عرفة إلى أن "الحكومات السابقة خلال الخمس سنوات المنقضية كانت تعلل انقطاع المياه بالجفاف، لكن خلال السنتين الماضيتين امتلأت السدود ومع ذلك تواصلت أزمة العطش وهو دليل على أن الإشكال لا يرتبط بوفرة المياه وإنما بسوء التصرف فيها".
وبحسب التقرير، تأتي محافظة القیروان (الوسط الغربي لتونس) في صدارة المناطق الأكثر عطشا، حيث تتوزع انقطاعات المياه أو غيابها بشكل عادل تقريبا بین مختلف مناطقھا وقراھا تليها في المرتبة الثانية مناطق الشمال الغربي من حیث عدد احتجاجات العطش رغم استحواذها على نحو 70% من الثروة المائیة السطحیة.
استمرار الأزمة
ويتوقع الإعلامي والمحلل السياسي فاضل الطيّاشي، أن يستمر التحرك الاحتجاجي في الشارع التونسي حتى مع تشكيل حكومة الكفاءات المستقلة التي يقودها هشام المشيشي بالنظر إلى المؤشرات الاقتصادية والمالية السلبية التي أعلن عنها الخبراء، أبرزها تراجع النمو بـ 21%.
وبيّن الطياشي في حديثه لـ "سبوتنيك" أن حكومة المشيشي واجهت منذ قدومها أربع تحركات احتجاجية كبرى، يقودها أساسا المعطلون عن العمل وحاملو الشهادات العليا الذين دخلوا في اعتصام مفتوح أمام ساحة الحكومة بالقصبة، وعائلات شهداء الثورة وجرحاها الذين يطالبون بسداد مستحقاتهم المالية، والأمنيون المعزولون الذين يطالبون بإعادتهم للعمل.
ويتوقع الطياشي أن يتضاعف عدد التحركات الاحتجاجية خلال الأيام القادمة خاصة وأن معظم هذه التحركات يحمل صبغة مالية ويتطلب من الحكومة توفير التمويلات اللازمة لتحقيق مطالب منظوريها.
وأشار إلى أن الحكومة الحالية ستكون عاجزة عن إيقاف نزيف الاحتجاجات خلال الفترة المقبلة، خاصة وأن رئيسها هشام المشيشي ضبط خلال خطابه يوم منح الثقة برنامج حكومته وحدد أولوياتها القريبة بإيقاف نزيف المالية العمومية وتحسين الموارد المالية للدولة واستعادة النمو الإيجابي سنة 2021.
وقال الطياشي "أمام هذا الوضع سيكون من الصعب جدا على الحكومة أن تحقق المطالب الاجتماعية وتعتني بالفئات الهشة والضعيفة وبالمعطلين عن العمل على المدى القريب".
توريث للأزمة الاجتماعية
واعتبر المتحدث أن التحركات الاحتجاجية المتواصلة هي نتاج طبيعي لتوريث الأزمة الاجتماعية بين الحكومات المتعاقبة بعد الثورة واعتمادها على الحلول الترقيعية والوعود الواهية، قائلا إن بعض هذه الحكومات لجأت إلى إبرام اتفاقيات كتابية مع الأطراف الاجتماعية ولم تلتزم بتطبيقها حتى انتهاء عهدتها، وهو ما أدى إلى ترحيل الأزمة إلى الحكومات المقبلة التي لا تجد بدورها التمويلات اللازمة لتنفيذ المطالب الاجتماعية.
وبيّن الطياشي أن السبب الرئيسي الثاني الذي يقف وراء استمرار التحركات بهذه الحدة، هو عجز هذه الحكومات عن إيجاد حلول وبدائل وأفكار لحل معضلة الفئات الهشة والضعيفة والعاطلين عن العمل، مشيرا إلى أن كل الحكومات لم تتحل بالإرادة السياسية اللازمة وبالجرأة والشجاعة لإيجاد مختلف الحلول الممكنة.
وأضاف أن أيً من الحكومات المتعاقبة لم تنجح في التشجيع على الاستثمار الخاص وأن الشباب على أرض الواقع يجد صعوبة كبرى في بعث مشاريع خاصة بسبب غياب التمويلات والضمانات التعجيزية، فضلا عن اعتناء هذه الحكومات بالجانب السياسي وبمصالحها الحزبية الضيقة أكثر من العناية بحل مشاكل البلاد".