وعادة ما يكون الأطفال المنقطعون عرضة لشتى أنواع الاستغلال حتى من قبل آبائهم الذين يسمحون بتشغيلهم في سن مبكرة وفي أعمال لا تناسب أعمارهم خاصة في الأوساط الريفية التي ينقطع عدد كبير من تلاميذها عن الدراسة بعد المستوى الابتدائي.
وعموما، تدفع الظروف الاقتصادية الصعبة أولياء التلاميذ إلى قبول مغادرة أبنائهم لمقاعد الدراسة، إما بسبب عجزهم عن سداد نفقاتها أو لعدم إيمان بعضهم بقدرة التعليم على الرفع من المستوى الاجتماعي خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا وطول انتظار الوظيفة.
بينما يربط مختصون أسباب المغادرة بوجود عناصر منفرة في المؤسسات التعليمية العمومية التي تخلّفت بشكل كبير عن القطاع الخاص خاصة في المناطق الداخلية التي تفتقر مدارسها إلى البنية التحتية الحسنة وتنعدم فيها أحيانا مياه الشرب ناهيك عن بعد بعضها عن المناطق السكنية، وهو ما يفرض على التلاميذ قطع مسافة كيلومترات على الأقدام للوصول إليها.
"التعليم رفاهة"
محمد الزيادي (17 سنة) ترك مقعده الدراسي وهو في سن الثالثة عشرة ليرعى الأغنام صحبة والده، يقول لـ "سبوتنيك" إن "التعليم رفاهة، وإن الدراسة لم تكن أبدا للفقراء".
ينحدر محمد من أسرة محدودة الدخل مكونة من والدين وخمسة إخوة بنات انقطعت اثنتان منهما عن التعليم والتحقتا بالعمل في إحدى مصانع قرية "ديار بن سالم" شمال محافظة نابل.
وذكر محمد أن التعليم ليس خيارا متاحا لأمثاله ممن تجبرهم مصاعب الحياة وظروف عائلاتهم المتدنية على العمل لإعالة أسرهم حتى وإن كانت الضريبة الاستغناء عن مستقبل مشرق.
يضيف "يضطر أبناء جهتي ممن تجاوزوا مرحلة التعليم الابتدائي إلى التنقل إلى مدينة المعمورة التي تبتعد عن قريتنا أكثر من 6 كيلومترات وذلك للالتحاق بالمدرسة الإعدادية، وقليلون جدا هم الذين يصلون إلى مقاعد التعليم الثانوي ونادرون أولئك الذين ينجحون في بلوغ التعليم العالي ودخول الجامعات".
وتابع "تكابد العائلات هنا من أجل توفير الامكانات المالية لضمان تعليم أبنائها حتى يتمكنوا في النهاية من العمل والتعويض لهم عن شقاء العمر، لكن الواقع مخيب للآمال وفرص الشغل تتقلص يوما بعد يوم حتى بالنسبة للناجحين بتفوق".
ويرى محمد أن مغادرة مقاعد الدراسة بشكل مبكر وإعالة أسرته خير من إضاعة الوقت في التعليم وإثقال كاهل عائلته بمصاريف لن تثمر بالضرورة عن عمل لائق.
أكثر من 100 ألف مغادر في السنة
وخلُصت دراسة حديثة أنجزها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أن أكثر من 100 ألف تلميذ يغادرون مقاعد الدراسة سنويا، وأن قرابة مليون تلميذ انقطعوا عن التعليم في العقد الأخير.
وقال عضو الهيئة المديرة للمنتدى والباحث في علم الاجتماع، منير حسين، لـ "سبوتنيك" إن عدد المنقطعين عن الدراسة منذ 2010 إلى حدود سنة 2019 بلغ 977 ألف أي ما يناهز 108 آلاف و500 منقطع في السنة، وينحدر أكثر من 90 بالمائة منهم من عائلات فقيرة.
وأشار إلى أن نسبة الانقطاع تسجل أعلى مستوياتها في السنة السابعة من التعليم الإعدادي (55%)، تليها السنة الأولى ثانوي (40%)، أي في مراحل الانتقال في المستوى التعليمي.
وبيّن حسين أن حوالي 48 ألف من الأطفال المنقطعين عن الدراسة يتجهون إلى التكوين المهني الذي تعتبره معظم العائلات مسارا للفاشلين، بينما يكون مصير البقية إما العمل في القطاع غير المنظم حيث يكونون عرضة للاستغلال الاقتصادي والنفسي وحتى الجنسي، أو يبقون دون توجيه أو عمل بشكل يفتح المجال إلى انخراطهم في الهجرة غير النظامية أو الانحراف الاجتماعي.
وأرجع عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية العدد الضخم للأطفال المنقطعين عن الدراسة في تونس إلى تراجع المؤسسة التربوية والتعليمية عن القيام بدورها وغياب مبدأ التكافؤ في الفرص بين التلاميذ.
وانتقد حسين ضعف الميزانية المخصصة لوزارة التربية والتعليم وتقلصها تدريجيا، "وهو ما أنتج تردي العملية التربوية على كل المستويات، من نقص في الإطار التربوي وضعف التجهيزات والوسائل التعليمية وتردي البنية التحتية في كثير من المناطق"، مشيرا إلى وجود ما لا يقل عن 500 مدرسة ابتدائية تفتقر إلى الماء الصالح للشراب.
وقال المتحدث "تحولت المنظومة التربوية العمومية إلى آلية إقصاء وتكريس للفوارق الاجتماعية، من خلال فسح المجال للدروس الخصوصية التي تعجز العائلات الفقيرة عن سداد مصاريفها وهو ما جعل 9 بالمائة من أبنائها ينقطعون عن الدراسة إراديا، ناهيك عن الرفع من نسق خوصصة التعليم".
ولفت إلى أن القطاع الخاص أصبح يسيطر على 99 بالمائة من خدمات التعليم ما قبل المدرسي و35 بالمائة من التعليم التحضيري، في وقت يدخل فيه 12 بالمائة من التلاميذ إلى المدارس دون أن يتلقوا أي تعليم أو تكوين سابق، ما يجعلهم الفئة الأكثر عرضة للانقطاع عن التعليم.
أسباب اقتصادية وثقافية
وفي تصريح لـ "سبوتنيك"، أكد رئيس الجمعية التونسية لحقوق الطفل، معز الشريف، أن الانقطاع المدرسي هو نتيجة لتراكمات عدّة تمس العائلة التونسية وخاصة منها الفقيرة ومتعددة الأفراد وذات المستوى المعرفي والثقافي المحدود.
ولفت إلى أن معظم الأطفال يغادرون مقاعد الدراسة في مرحلة الانتقال من المستوى الإبتدائي إلى الإعدادي أو من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية وذلك بسبب الصعوبات التي يتعرضون لها.
وأضاف "المعدل الوطني للأطفال الذين استكملوا المرحلة الابتدائية يصل إلى 95% من جملة المسجلين، وهذه النسبة تتقلص إلى 82% بالنسبة للأطفال الذين التحقوا بالمدارس الإعدادية".
ويفسّر الشريف هذا التراجع بمعطيات عدة، أولها انتشار المدارس الابتدائية في جميع مناطق الجمهورية وقربها من المناطق السكنية وهو ما يسهّل على العائلات تمكين أطفالهم من الولوج إلى التعليم، وثانيها هو اقتصار الإعانات التي تقدمها الدولة للعائلات المعوزة على الفترة الابتدائية.
ولفت إلى أن العديد من التلاميذ وخاصة في المناطق الريفية يجدون صعوبة في استكمال مسارهم الدراسي في المرحلة الإعدادية، بسبب بُعد المدارس الإعدادية وقلّتها مقارنة بالمدارس الابتدائية وعدم إتاحة الدولة امكانيات التنقل في كل المناطق وعجز العائلات عن توفير المال اللازم للتنقل.
وأضاف "العائق الثاني هو عائق ثقافي، حيث ترفض بعض العائلات المحافظة إرسال أبنائها وخاصة منهم الإناث إلى المدارس البعيدة بالنظر إلى وضعية المبيتات الصعبة والتي تنتشر في بعض سلوكيات منفرة على غرار التحرش".
ونبّه الشريف من خطورة الانقطاع المدرسي على الأطفال الذين يتم استغلالهم واستنزافهم خاصة في المناطق الريفية حيث يتحولون إلى وقود للنشاط الفلاحي بوصفهم الحلقة الأضعف والأقل أجرة.