البلاد التي أخرجت التحفة الدرامية الكوميدية والناجي الوحيد من ظاهرة العولمة في العالم "ضيعة ضايعة"، يبدو أنها أيضا كانت الناجي الوحيد، إن صحّت التسمية، من جميع العواصف السياسية والعسكرية التي ضربت منطقة الشرق الأوسط، بدءا من تونس وليبيا وصولا إلى العراق، وغيرها من الدول، على وجه التحديد الدول التي لا تربطها بأمريكا علاقة جيدة، وبالطبع لا يخفى على أحد، على رأس هذه الدول سوريا، العدو التاريخي اللدود لأمريكا وإسرائيل.
تشير جميع الأحداث المتلاحقة إلى أن عودة سوريا إلى واجهة المشهد العربي، قريبة جدا، آخرها الاتصال الذي حدث اليوم بين الأسد وولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وقبلها مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والتي ناقشت جميعها سبل تعزيز التعاون، بل نوقشت قضايا الشرق الأوسط أيضا.
ويبدو أن صحيفة "foreignpolicy"، قد استشفت من مصادرها الخاصة هذا التقارب في مقال نشرته مؤخرا تحت عنوان "الأسد صديقا للعالم العربي مرة ثانية"، وجاء في المقال:
"يبدو أن عودة سوريا، كعضو يتمتع بمكانة جيدة في جامعة الدول العربية التي علّقت عضويتها في عام 2011، هي مسألة وقت، وكان لبنان والعراق والجزائر والسودان دائمًا من الدول المؤيدة لعودتها".
الحرب التي بدأت قبل 11 عاما تحت اسم "الربيع العربي"، لم تنته كتوقعات المروجين لها، أو حاملي شعارها، فحتى في الدول التي اعتبرت أن "الربيع العربي" قد نجح فيها، على سبيل المثال، ليبيا، لم تهدأ رحى الحرب فيها إلى يومنا هذا.
لكن عدم الاستقرار المستمر خلق مشاكل كبيرة في المنطقة العربية، على رأسها مشكلة الإرهاب، لتتبعها مشكلة أخرى اقتصادية لمستها أغلب الدول المجاورة أو القريبة من مناطق النزاع، على سبيل المثال خلقت الأزمة الليبية مشاكل كبيرة على الحدود الجزائرية والتونسية، لكن موقع سوريا جعل من حالة عدم الاستقرار هذه كارثي للمنطقة ككل، بلا استثناء؛ تبدأ من أزمة تحويل خطوط الطيران المدني في السماء، ولا تنتهي بانقطاع شريان التجارة البري و"قلب الاقتصاد العربي"، بدون أي مبالغة.
طريق الحرير "مهشم" ويجب ترميمه قبل أزمة الطاقة العالمية
تسببت سلسلة الأزمات المتلاحقة التي شهدتها المنطقة العربية بتقطع أوصال التجارة بين البلدان المجاورة وخسارة آلاف العمال لأعمالهم ومزارعهم ومصانعهم، على سبيل المثال لا الحصر، كان من أكثر المتأثرين بالأزمة السورية هي الأردن، حيث تعتبر الأردن ممرا لمصر وبالعكس، وانتعشت حركة القوافل التجارية والبضائع وشاحنات الترانزيت بين سوريا والأردن وصولا إلى دول الخليج بشكل كبير قبل الأزمة السورية، وكان الأوتوستراد الواصل من شمالي حلب وصولا إلى دمشق وعمان إلى السعودية من أهم خطوط النقل التجارية البرية على الإطلاق وشريان حياة للمنطقة.
تسبب هذا التهشم الناجم عن "الربيع العربي" بخلل كبير في هذه الشبكة الطرقية المهمة والحيوية، حيث تعتبر الأقل كلفة والأكثر أمانا من وسائل النقل الأخرى، وتسبب توقفها بخسائر اقتصادية كبيرة جدا، كان أثرها واضحافي أغلب الدول والمناطق العربية، حيث أثبتت التجربة ضورورة إحياء هذا الخط عن طريق تثبيت العلاقات التجارية مع دمشق من جديد، خصوصا أن أزمة الطاقة العالمية قد بدأت تلوح بالأفق، من الصين إلى أوروبا، والمنطقة العربية، ليست اسثناء.
نظمت بكين منتدى التعاون الاقتصادي العربي الصيني والذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تطوير روابط استراتيجية، وجاء في موقع "الصين بالعربي":
"تعي الصين جيدا، أن مبادرة (الحزام والطريق) لن يكتب لها النجاح دون تحقيق شراكة متكاملة مع الدول العربية، بوصفها الجسر الحقيقي الرابط بين الشرق والغرب، في ضوء موقعها الاستراتيجي المتميز في ملتقى طريقي الحرير البري والبحري".
وعند التركيز في عبارة "ملتقى الطريقين البري والبحري"، تظهر في الخريطة المنشورة للمشروع الصيني الواعد، دمشق، كمركز مهم جدا لهذا الطريق الحيوي والحساس، وهو مشروع يسبب قلقا كبيرا بالنسبة لأمريكا، لكنه بالرغم من ذلك، محط أنظار العالم، حيث تربع التنين الصيني على رأس الاقتصاد العالمي، والجميع على يقين بأن "التشبيك مع الصين يعني حصولك على اقتصاد رصين"، فالأخيرة توفر وتقدم لك ما تريد بعيدا عن حسابات السياسة.
يلاحظ في الأعوام الأخيرة تغير التوجهات الأمريكية بشكل كبير فيما يخص مناطق الصراع الأهم بالنسبة لها، حيث تركز ثقلها الحالي على حدود الصين، تحديدا بحر الصين الجنوبي، وأكدت أغلب المصادر أن السياق الاستراتيجي لاتفاقية "أوكوس" التي وقعتها كل من بريطانيا وأمريكا وأستراليا، ما هي إلا محاولة من قبل هذه الحكومات "للرد على قدرة الصين العسكرية المتزايدة، البحرية بشكل أساسي، بما في ذلك أسطول الغواصات الكبير".
تحاول أمريكا بالفترة الأخيرة التركيز على ما يمكن اعتباره "عدوها الأخطر" حيث تركز أغلب قدراتها العسكرية على إعادة هيكلة الحلفاء من أجل تحقيق هذا الهدف على حدود الصين الجنوبية، خصوصا أن لدى واشنطن حلفاء في تلك المنطقة منهم اليابان وهم قادرون على تأمين تواجد قواتها هناك، الأمر الذي قد يفسر انسحابها من أفغانستان أيضا، حيث تسعى إلى تركيز جهودها ونفقاتها العسكرية في منطقة محددة.
بحسب مقال منشور في صحيفة "al-monitor"، فإن حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، يقوم اليوم بعمليات إصلاح شامل للعلاقات الإقليمية، منها علاقته مع مصر والإمارات.
نوه المقال إلى وجود طلبات متزايدة في الأروقة التركية وجدل سياسي كبير حول الأزمة مع سوريا، حيث طالب الكثيرون في تركيا بعدم زعزعة علاقة بلادهم مع دمشق في أكثر من مناسبة.
ونقلت الصحيفة عن السياسي التركي المخضرم، شفيق سيركين، الذي عارض التحركات التركية ضد الأسد، قوله: "إن رئيس البلاد، رجب طيب أردوغان، سيفعل أي شيء، طالما أنه يعمل على الحفاظ على سلطته"، بحسب المصدر.
وتحدث المقال عن وجود ضغط داخلي كبير وتزايد هذه الأصوات التركية بهدف إعادة إحياء هذه العلاقات، وخصوصا بهدف تخفيف مشكلة اللاجئين في البلاد.
ونقلت الصحيفة عن أستاذ العلوم السياسية وخبير استطلاعات الرأي في جامعة "كوج" في إسطنبول، نزيه أونور كورو، تأكيده أن استطلاعات الرأي تشير باستمرار إلى أن عددا هائلا من الأتراك لا يريدون المزيد من العلاقات السيئة مع دمشق، وتابع قائلا: "تعتقد الأغلبية أن الجلوس مع الأسد هو المفتاح لحل المشكلة، ويشعر أنصار حزب العدالة والتنمية بهذا أيضا".
لكن النقطة الأهم التي قد تغري الجانب التركي، وتجعل من دمشق ملاذها الوحيد، هو المشكلة الكردية، حيث تحاول أمريكا دعم قيام كيان كردي في المنطقة وهو الأمر الذي يعتبر بالنسبة لدمشق من الخطوط الحمراء، وهو ما يجعل من التفاهم مع دمشق حول هذه المشكلة أفضل الخيارات المتاحة بالنسبة لأنقرة، خصوصا أن مساعي الأخيرة لحل هذه المشكلة عسكريا أثبتت عدم نجاعتها ليبقى الحل سوريا داخليا.
ومن جهة ثانية، ترى الكثير من الدول العربية، على رأسها الجزائر ومصر وبعض دول الخليج، أن استقرار وثبات سوريا، يساهم بشكل جوهري في وقف "التدخلات التركية في العالم العربي" كما تصفها بعض وسائل الإعلام، وهو موضوع حساس جدا للمنطقة ككل، خصوصا بعد أزمة الحدود البحرية شرقي المتوسط، والتي وصلت تبعاتها إلى ليبيا ولن تنتهي بها، بالإضافة إلى دخول الجيش التركي مؤخرا إلى الأراضي العراقية، الأمر الذي يجعل من تعزيز الدور السوري سياسيا واقتصاديا أمرا ضروريا لإحداث التوازن.
المؤكد، بعد مرور أكثر من 11 عاما على أحداث "الربيع العربي"، أن سوريا هي "الناجي الوحيد"، الذي لم ينهار من هذه العاصفة الكبيرة التي اجتاحت المنطقة، بعكس جميع التوقعات السابقة، لكنها على الرغم من ذلك، تعيش حقبة استثنائية من الناحية الاقتصادية، حيث أثقلت تبعات الأزمة سكان البلاد، لكن الانفتاحات الخارجية الجديدة، لا بد أن تترك أثرا اقتصاديا، ومن المؤكد أنها ستساهم في إعادة إنعاش التجارة والاقتصاد في المنطقة ككل وفي سوريا كجزء هام لا يتجزأ من خارطة الشرق الأوسط، وهو أمر ستكون الإيجابية واضحة على جميع الدول العربية من مصر وصولا إلى الأردن والإمارات.
المقال يعبر عن رأي كاتبه.